رغم ما تمتلكه مصر من تنوع ثقافي وإنساني نادر، يظل التراث الغذائي، وبخاصةً الحلويات الشعبية، أحد أكثر الكنوز المهملة، على الرغم من قدرته على جذب السائح قبل الآثار أحيانا؛ فالحلوى ليست مجرد مذاق، بل حكاية مكان وذاكرة مجتمع، وجسر يربط الحاضر بالماضي، ومن هنا يفتح الباحث في علم الاجتماع والتراث الشعبي عماد الدين عبدالهادي -من خلال حديثة "للشروق"- ملف الحلويات التراثية المصرية، متسائلا: لماذا لا تتحول هذه الكنوز إلى رافد حقيقي للسياحة؟. حلويات بجذور مصرية موثقة يقول عماد الدين، إن مصر تمتلك عددا كبيرا من الحلويات التراثية التي تؤكد المصادر التاريخية نسبتها إليها بوضوح، مشيرا إلى أن "المِشبك" يعود أصله إلى محافظة دمياط، بينما تنتشر حلوى "السرسوب" في محافظات الصعيد على وجه الخصوص. وأضاف أن "أم علي" تُعد حلوى قاهرية خالصة، ارتبطت بتاريخ المدينة وحياتها الاجتماعية، في حين يختلف على نسب "البسبوسة" بين القاهرة والمدن الساحلية، موضحا أن خريطة الحلويات التراثية تمتد لتشمل "المفتقة" المنسوبة إلى الدلتا، والتي تتكون من العسل الأسود والحلبة المطحونة وبعض ومكسرات، مثل الفول السوداني والسمسم، وقرص العجوة الذي تعود جذوره إلى عادات فرعونية قديمة، فضلا عن "الفتة الحلوة" كإحدى الوصفات الصعيدية المتوارثة. وأشار كذلك إلى "صوابع زينب" المرتبطة بالقاهرة، و"العاشوراء" التي تعود إلى العصر الفاطمي وما زالت تُعد بالمكونات نفسها في القاهرة وجميع المحافظات، إضافة إلى "لقمة القاضي" التي أكد أن أصولها مصرية، مع وجود بعض الحلويات الأخرى التي تتداخل جذورها بين مصر ودول مجاورة. غياب السياحة التراثية أضاف عبدالهادي، أن المشكلة الحقيقية لا تتعلق بالطعام فقط، بل بغياب مفهوم السياحة التراثية من الأساس في مصر، مؤكدا أن البلاد لا تزال تعتمد على السياحة الأثرية وحدها، بينما تهمل أنماطا أخرى قادرة على جذب شرائح مختلفة من الزائرين. وأوضح أن هناك عناصر تراثية كاملة لا يجري الترويج لها كما ينبغي، مثل العلاج الشعبي المرتبط بالدفن في الرمال بالواحات، رغم ما له من فوائد معروفة، حيث يقتصر حضوره على من يعرفونه من السياح دون أي حملات تعريف أو تنظيم رسمي. مهرجانات الطعام الشعبي وأفكار قابلة للتنفيذ أشار الباحث في التراث، إلى أنه سبق أن اقترح تنظيم مهرجانات للطعام الشعبي، كأن يكون هناك يوم مخصص للكشري وآخر للفول والطعمية، لكنها ظلت أفكارا غير مستغلة رغم بساطتها وقدرتها على خلق حالة ترويجية واسعة. وأضاف أن مصر لا تزال متأخرة أيضا في الترويج للموالد التراثية، على الرغم من كونها جزءً حيا من الثقافة الشعبية، وكان يمكن أن تمثل عنصر جذب سياحي قوي، خاصة إذا جرى تنظيمها وتسويقها بشكل عصري. وأوضح عبدالهادي، أن السياحة التراثية يمكن أن تميز مصر عن سياحة التسوق والمولات الحديثة، مقترحا تحويل مناطق مثل وسط البلد إلى مساحات تضم أكشاكا للأطعمة التراثية، على غرار ما يحدث في "تايمز سكوير" أو في أسواق لندن وباريس، حتى لو كان ذلك ليوم واحد أسبوعيا. وأكد أن مثل هذه الأفكار لا تحتاج إلى ميزانيات ضخمة بقدر ما تحتاج إلى رؤية وإيمان بقيمة التراث، متمنيا أن يشهد هذا الملف اهتماما أكبر، خاصة بعد توثيق الكشري كأحد الأطباق التراثية. التوثيق وحماية الهوية يُرجع عبدالهادي إهمال هذا النوع من السياحة إلى سبعينيات القرن الماضي، مع عصر الانفتاح، حيث انصب التركيز على التاريخ والآثار فقط وتراجع الاهتمام بالموروث الشعبي رغم أهميته. واختتم حديثه بالتشديد على ضرورة الإسراع في توثيق الحلويات المصرية، وعلى رأسها البسبوسة والمشبك وأم علي، محذرا من محاولات بعض الدول نسب أصول هذه الحلويات إليها، في ظل غياب التوثيق الرسمي الذي يحفظ حق مصر وتراثها.