نظمت مؤسسة السلطان لتعزيز التراث مع مكتب آركينوس، ندوة ثقافية بعنوان "كيف صنع المكان الحكاية؟: صحراء المماليك كما رآها خيري شلبي"، تسلط الضوء على العلاقة الإبداعية بين الأديب الكبير خيري شلبي وحي صحراء المماليك، الذي عاش فيه لسنوات طويلة وشكّل جزءًا أصيلًا من ذاكرته ومصدرًا ثريًا لخياله السردي. شارك في الندوة كل من زين العابدين خيري شلبي الكاتب والصحفي ورئيس تحرير جريدة القاهرة، الناقد والباحث الأدبي شعبان يوسف، وعزة كامل مديرة مهرجان أسوان لأفلام المرأة، ويدير اللقاء الكاتب والصحفي محمد توفيق، وبحضور الفنان التشكيلي محمد عبلة، ونانسي حبيب مسئول النشر في دار الشروق. في مستهل الندوة، تحدث الكاتب محمد توفيق عن تجربة خيري شلبي الفريدة، مشيرًا إلى أن فكرته منذ سنوات كانت تقوم على الجلوس بين المهمشين في منطقة صحراء المماليك، واختياره لفكرة «الأحواش»، وتعاطيه مع المكان وسكانه بوصفه واحدًا منهم، بصدق شديد. وأكد أن هذه القيمة العظيمة هي ما رسخها خيري شلبي في تجربته الإبداعية، وجعلته مختلفًا بين أبناء جيله، إذ اعتمد على صدق التجربة ومعايشتها الفعلية. ومن هنا جاء تميز كتابات أسامة أنور عكاشة، التي تحمل طعمًا خاصًا، بوصفها امتدادًا لذائقة خيري شلبي المختلفة. من جانبها، أوضحت عزة كامل أن اسم خيري شلبي يستدعي في الذهن عوالم خاصة متفردة، تختلف عن عوالم أي أديب آخر، فهي عوالم تشمل أفكاره وفلسفته، وتنسج شخصياته المدهشة ذات الطبائع الفريدة، حيث يربط دائمًا صراعات أبطاله بأماكنهم الحميمة. وأضافت أن كل من رواية «نسف الأدمغة» ورواية «بطن البقرة» تغوصان في عالم غرائبي، لا يقتصر على المخدرات، بل يتناولان كيفية إدارة الشخصيات للتجارة، بعيدًا عن كون العملين مجرد تناول لقضية الإدمان، فهما دراسة معمقة في بنية الفساد وكيفية تأثيره في نسيج المجتمع. وأشارت إلى أن الشخصيات مرسومة بدقة فائقة، ومعقدة، لأنها تعيش حالة من الازدواجية. كما اعتبرت «نسف الأدمغة» شهادة أدبية على ما تعرضت له المقابر من انتهاكات، وتوثيقًا لما جرى للجبانات منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، مؤكدة أن خيري شلبي، في تعامله مع شخصيات المدينة، كان يركز على الفساد القادم منها، وفي الوقت نفسه يكشف حجم الثراء والتنوع الجمالي غير المكتشف في عالم الجبانات. أما الناقد شعبان يوسف، فأكد أن خيري شلبي كان على الدوام مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالكتاب وبالمهمشين، ولم يكن يستطيع الاستغناء عن الكتاب في حياته. واعتبر أن حكاية خيري شلبي في حد ذاتها تصلح لأن تكون رواية كبيرة، مليئة بالتفاصيل. وأشار إلى أنه عندما جاء خيري شلبي إلى المدينة، صدم بما رآه من أكاذيب وتوحش، ما جعله يشعر بالغربة، حتى إنه كتب في عام 1993 شهادة ذكر فيها أنه لم يتم دعوته إلى أي مهرجانات أو احتفالات عامة، فاختار صحراء المماليك ليكون المكان الذي يهرب من زيف المدينة وضجيجها. بدوره، تحدث زين العابدين خيري شلبي عن علاقة والدع بالمكان، موضحًا أن خيري كتب عن المنطقة في العديد من رواياته، وأنه قبل أن يختار المكان، كان المكان هو الذي اختاره. وأشار إلى أن الأمر بدأ بالصدفة، حين تعطلت سيارته على طريق صلاح سالم، فجلس منتظرًا إصلاحها، وأحضر له الميكانيكي نورًا ليقرأ، فاستهوته الأجواء وأعجبه المكان. عاد في اليوم التالي ليتعرف على المنطقة عن قرب، حتى أصبح بمثابة عمدة لها، وحقق ما كان يتمناه من منفى اختياري بعيدًا عن مجتمع مثقفي وسط البلد، ليجد نفسه وسط المهمشين الذين ينتمي إليهم في الأصل، سواء في كفر الشيخ أو دمنهور أو الإسكندرية أو القاهرة. وأوضح أن المنطقة في سبعينيات القرن الماضي لم تكن عامرة بالعمران كما هي الآن، بل كانت موحشة، تضم مجموعات قليلة من المقابر وعددًا محدودًا من السكان. وفي تلك الفترة، وبعيدًا عن المقاهي، كان عندما يريد أن يعطي العنوان لشخص يقوم بإعطائه جنيه مصري المرسوم عليه قلعة قايتبا. وأضاف زين خيري شلبي أن لحقيق الخصوصية استأجر والده حوشًا، وامتدت إقامته فيه ما بين 18 و20 عامًا، كتب خلالها أهم رواياته، وعاش ليالي من الرعب وسط المدافن، ووثق احداث هامة قام بتدوينها وتوظيفها بشكل واضح في أعماله الروائية. جدير بالذكر أن الندوة أقيمت في مساحات قايتباي – صحراء المماليك، ضمن فعاليات تسعى لإعادة اكتشاف علاقة الأدب بالمكان وإحياء الذاكرة الثقافية للمدينة.