تعرض قرار الولاياتالمتحدة بوقف عقوبات مقررة على وزارة أمن الدولة في الصين (وكالة الاستخبارات المسؤولة عن عمليات الحرب السيبرانية)، لانتقادات واسعة النطاق، وفقا للكاتب الأمريكي بيتر سوسيو المتخصص في الكتابات العسكرية والسياسية والشؤون الدولية. وكتب سوسيو في تحليل، نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية، أن الولاياتالمتحدة قدمت الأسبوع الماضي هدية عيد ميلاد مبكرة لوزارة أمن الدولة الصينية عندما أعلنت أنها ستوقف العقوبات التي كانت قررت ردا على حملات التجسس السيبراني الضخمة التي شنتها الوزارة ضد البنية التحتية الأمريكية. وقد تراجعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن موقفها بسبب مخاوف من أن تعرقل العقوبات اتفاقا تجاريا حيويا، حسبما ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز. ونتيجة لذلك، لن تتم معاقبة بكين، حتى رغم الاشتباه في قيام وزارة أمن الدولة بتنفيذ حملة التجسس السيبراني واسعة النطاق التي استمرت سنوات، والتي عرفت باسم "سولت تايفون". وأوضحت الصحيفة أن قراصنة صينيين يعملون لصالح وزارة أمن الدولة نجحوا في استهداف "الاتصالات غير المشفرة لكبار المسؤولين الأمريكيين". وأشار سوسيو إلى أن البيت الأبيض، الذي فرض رسوما جمركية على شركاء وحلفاء الولاياتالمتحدة لموازنة ما يعد ممارسات تجارية غير عادلة، اختار عدم معاقبة الصين خشية أن يهدد هذا الاتفاقات المحتملة بشأن المعادن الأرضية النادرة. ولطالما نفت بكين قيام وزارة أمن الدولة الصينية بأي حملة تجسس سيبراني ضد الولاياتالمتحدة. من جانبه، حذر كارلوس كروس موريرا، الرئيس التنفيذي ومؤسس شركتي "سيل إس كيو" و"وايز كي جروب"، المتخصصتين في الأمن السيبراني، من أن "تعليق العقوبات على وزارة أمن الدولة الصينية من شأنه أن يخفف حدة التوترات التجارية قصيرة المدى، لكنه يضعف الردع السيبراني في وقت تستهدف فيه جماعات مدعومة من الدولة، مثل /سولت تايفون/، شبكات الاتصالات والدفاع الحيوية بالفعل". وقال موريرا لناشونال انتريست: "بالمثل، يحقق تأخير ضوابط التصدير الجديدة استقرارا مؤقتا، لكنه يبطئ الجهود المبذولة لحماية القيادة الأمريكية في مجالات أشباه الموصلات وأجهزة الذكاء الاصطناعي وأدوات التصنيع المتقدمة- وهي مجالات رئيسية للأمن التكنولوجي طويل المدى". ويرى موريرا أن عدم المضي قدما في فرض العقوبات على وزارة أمن الدولة قد يشجع الصين على مواصلة تجسسها السيبراني. ومع ذلك، قد يشير ذلك أيضا إلى أن الولاياتالمتحدة لا تأخذ هذه التهديدات على محمل الجد كما تفعل مع الزوارق السريعة المتجهة إلى الشواطئ الأمريكية. وأوضحت المحللة الجيوسياسية إيرينا تسوكرمان، رئيسة شركة "سكاراب رايزنج" المتخصصة في تقييم التهديدات، أن "وقف العقوبات على وزارة أمن الدولة الصينية في خضم مفاوضات تجارية يشير إلى إمكانية تسعير العدوان الاستخباراتي والمساومة عليه والتغاضي عنه عندما يكون ذلك مناسبا. وبالنسبة لوزارة أمن الدولة، لا يمثل هذا انتكاسة، وإنما هو تأكيد على أن أنشطتها تقع ضمن هامش مقبول من الاحتكاك الجيوسياسي. وبدلا من وضع ردع، يؤكد القرار أن النفوذ الاقتصادي لا يزال يفوق المخاوف الأمنية في تسلسل الأولويات لدى واشنطن". وبالإضافة إلى ذلك، سوف يؤثر هذا الحساب على مدى مضي العملاء الصينيين قدما في عمليات التجسس السيبراني والصناعي والتأثير. وقالت تسوكرمان لناشيونال إنترست: "ستعتبر الجهات المعادية الأخرى هذا الأمر سابقة. إذا تعاملت الولاياتالمتحدة مع العقوبات كأدوات مرنة يمكن تعليقها للحفاظ على المفاوضات التجارية مع منافس قوي، فسيصبح من الأسهل تبرير السلوك العدواني من دول أصغر". كما أن هذه السياسة قد تفترض خطأ أن الولاياتالمتحدة يمكن أن تقيم سلاسل توريد بديلة للمعادن النادرة دون إثارة إجراءات مضادة صينية. وهذا على الأرجح افتراض متفائل، نظرا لأن مشروعات المعادن الحيوية تواجه دورات طويلة للحصول على التصاريح وقيودا بيئية ومقاومة مجتمعية. وتابعت تسوكرمان: "تدرك الصين أن هيمنتها مستمدة من عقود من السياسة الصناعية، وليس من المرجح أن تسمح للمنافسين بالنمو دون تحد. كلما اعتبرت واشنطن أن تنويع المعادن النادرة شرط أساسي لتحقيق القوة الجيوسياسية، كلما زاد الحافز لدى بكين لتأخير أو تعطيل هذا التنويع". وعلاوة على ذلك، كلما طالت فترة استبعاد العقوبات، أصبح السلوك العدائي طبيعيا أكثر، ومن غير المرجح أن توقف أجهزة الاستخبارات الصينية عملياتها بينما تقوم واشنطن بإعادة هيكلة سلاسل التوريد الخاصة بها. وهناك اعتبار آخر، وهو أن ضبط النفس التكتيكي قصير المدى قد يأتي على حساب الردع طويل المدى. وهذا أيضا وقت حرج، حيث تتقدم التكنولوجيا بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، والذكاء الاصطناعي يغير الأمن السيبراني. وأشار موريرا إلى أن "هذه القرارات تبرز أيضا ضرورة أعمق: الموجة التالية من الهجمات السيبرانية سوف تكون مدعومة بالتقنيات الكمية أو الكمومية. وبمجرد أن ينشر الخصوم قدرات كمية، يصبح التشفير الكلاسيكي المستخدم في شبكات اليوم وأجهزة إنترنت الأشياء والأقمار الصناعية وأنظمة التوثيق، عرضة للخطر. وأي تأخير في اعتماد التشفير ما بعد الكم والرقائق المقاومة للتقنيات الكمومية والبنية التحتية الرئيسية الآمنة، يزيد من احتمالية التعرض للخطر". وفي مثل هذا السياق، قد يكون تخفيف حدة الإجراءات التجارية ملائما من الناحية التكتيكية، لكن السباق التكنولوجي لا يرحم. وأضاف موريرا: "يجب على الولاياتالمتحدة وحلفائها تسريع نشر الأمن الكمي الآن، لأن مشهد التهديدات يتغير بسرعة أكبر بكثير من المشهد الدبلوماسي". وجاء قرار عدم فرض عقوبات على الصين في أعقاب أمر أصدره وزير الدفاع بيت هيجسيث هذا الربيع بإيقاف التخطيط لأي عمليات سيبرانية هجومية ضد روسيا مؤقتا، كتحرك دبلوماسي لتشجيع المفاوضات مع روسيا التي تستهدف إنهاء حرب أوكرانيا. ولم ينجح هذا الجهد، وازدادت حدة القتال. ولم يكن من المفترض أن يكون هذا مفاجئا، نظرا لأن روسيا ردت على جهود حسن النية السابقة بتجاهلها. وقالت تسوكرمان إن "إيقاف التخطيط السيبراني الهجومي لتشجيع المفاوضات مع موسكو يعكس سوء فهم للثقافة الاستراتيجية الروسية، لأن الكرملين لا يفسر ضبط النفس على أنه حسن نية، ولكنه يفسر هذه الرسائل على أنها تردد وضعف". ومن خلال إيقاف دورات التخطيط، أبلغت واشنطنموسكو فعليا أنها مستعدة لخفض استعدادها مقابل المشاركة الدبلوماسية،ولكن هذه الخطوة لم تشجع على تقديم تنازلات؛ بل شجعت على الاعتقاد أن الضغط سيؤدي إلى مزيد من التنازلات. في أحسن الأحوال، ربما تم اعتبار ذلك استرضاء. ولم يحقق هذا السلام في أوكرانيا، بل أسوأ من ذلك، ربما أثر على جهود واشنطن في الحرب السيبرانية. وربما ليس ذلك أمرا مفاجئا، فعقلية "قيم المحارب" لدى هيجسيث تستعد لصراع يعود إلى القرن التاسع عشر (أو ما قبله)، وربما يكون غافلا عن التهديد السيبراني. كما يتضح ذلك في كيفية إصداره أوامر بإغراق تلك الزوارق السريعة، متجاهلا الهجمات التي يمكن تنفيذها من لوحة مفاتيح بعيدة. وإذا أوقفت الولاياتالمتحدة جهودها السيبرانية ضد روسيا، فقد تصبح أضعف بسبب ذلك. وأوضحت تسوكرمان أن "التكلفة التشغيلية للتوقف كبيرة. يتطلب الهجوم السيبراني تخطيطا مستمرا لشبكات الخصوم وتحديد نقاط الضعف وتحسين الوصول. عندما تتوقف هذه العملية، ولو بشكل مؤقت، يكسب المدافعون وقتا لإعادة تكوين الأنظمة وإخفاء أسطح الهجوم. هذا يعني تخلي الولاياتالمتحدة عن معلومات استخباراتية قيمة وفقدها فرصا لتهيئة قدرات يمكن أن تشكل أداة تأثير حال تصاعد الصراع. إن الاستعداد السيبراني ليس أمرا يمكن تشغيله وإيقافه دون عواقب". ويتضح بشكل متزايد أن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لا تستعد لحرب القرن الحادي والعشرين، ولا تستوعب التهديد الذي يشكله التجسس السيبراني الصيني، ولا الحاجة إلى تنفيذ عمليات مماثلة ضد روسيا. من الناحية الدبلوماسية، لقد فشلت هذه البادرة، لأن حسابات الحرب الروسية تحركها ديناميكيات ساحة المعركة وأمن النظام وليس الإشارات الخطابية. وقالت تسوكرمان إن "موسكو لن تتفاوض بجدية إلا عندما تعتقد أن التكاليف تفوق المكاسب المحتملة. إن التوقف الطوعي للضغط السيبراني الأمريكي لا يغير هذه المعادلة". وبدلا من ذلك، يعزز هذا التوقف فكرة أن الولاياتالمتحدة أكثر حساسية للتصعيد من روسيا، وأن واشنطن ستقلص من أدواتها الخاصة على أمل إقناع موسكو بالحوار. وهناك أيضا خطر مؤسسي أوسع نطاقا، وهو التعامل مع القدرات السيبرانية كورقة مساومة بدلا من كونها ركيزة أساسية للدفاع الوطني. وهذا بدوره قد يقوض ثقافة الاستعداد داخل القيادات السيبرانية. وأضافت تسوكرمان أن " الأفراد الذين يتدربون على المشاركة المستمرة يتوقعون من القيادة السياسية أن تدرك أن الردع يعتمد على الاستعداد، وليس على ضبط النفس الرمزي. يبعث التوقف المؤقت، برسالة عكسية، ويخاطر بإضعاف المعنويات وفرص التجنيد في مجال يشهد بالفعل منافسة شديدة على الكفاءات".