تغيّرت طبيعة المالية العامة المصرية بشكل جوهرى فى السنوات التى تلت الإغلاقات الوبائية، وهى تغيّرات لا يمكن عزلها عن التحولات العالمية التى ضربت الاقتصادات كافة بدرجات متفاوتة. فقد جاءت مرحلة ما بعد كوفيد 19 لتعيد ترتيب الأولويات الاقتصادية فى العالم، ليس فقط من حيث مستويات الإنفاق والديون والعجز، بل كذلك من حيث بنية الإيرادات ومرونة أسواق العمل وقدرة الحكومات على إدارة الصدمات المتلاحقة. لم تكن مصر استثناءً فى هذا السياق؛ بل كانت تواجه تحديات مركّبة يجتمع فيها الإرث المالى العَسِر السابق مع ضغوط عالمية متصاعدة، الأمر الذى جعل مسار الموازنة العامة شديد التعقيد والتداخل، كما هو الحال فى بلدان مثل جنوب إفريقيا وتركيا والبرازيل التى مرّت بالظروف نفسها تقريبًا من تضخم مرتفع، وانكماش فى الاستثمارات، وضغوط على عملاتها الوطنية. كانت صدمة الأسعار العالمية هى الصدمة الأولى التى تعرّضت لها المالية العامة المصرية بعد انتهاء الإغلاقات، إذ قفزت أسعار الطاقة والمواد الخام إلى مستويات غير معتادة، وشهدت سلاسل التوريد اختناقات حادة، وتراجعت حركة التجارة الدولية فى بعض القطاعات قبل أن تعود تدريجيًا بمرور الوقت. هذه التغيرات انعكست بصورة مباشرة على هيكل المصروفات، الذى شهد توسعًا اضطراريًا فى بنود معينة مثل دعمَى الطاقة والغذاء، نتيجة الارتفاعات التى تجاوزت قدرة السوق المحلية على استيعابها. ولم تكن هذه الظاهرة مصرية خالصة، بل شوهدت بوضوح فى الهند وإندونيسيا والمكسيك، حيث اضطرت الحكومات إلى التدخل للحفاظ على الحد الأدنى من استقرار الأسعار وتجنب انفجار اجتماعى محتمل. ولعل التراجع الكبير فى أسعار منتجات الطاقة أثناء الإغلاق الوبائى لم يُستغل بصورة كافية من قبل المتحوّطين فى الحكومة. • • • فى المقابل، لعبت السياسة الضريبية دورًا أساسيًا فى إعادة بناء قدرة الدولة على تمويل نفقاتها دون المزيد من التوسّع المفرط فى الاعتماد على الديون. واستمرارًا لنهجها الإصلاحى بعد جائحة كوفيد 19، اتجهت الدولة عقب انقضاء مرحلة الإغلاقات إلى توسيع القاعدة الضريبية بدلاً من زيادة العبء على الممولين القائمين، فى سياق يستند إلى الدروس المستفادة من تجارب دولية رائدة مثل تجربتى كولومبيا وبيرو اللتين أكدتا أن رفع الضرائب على الشرائح محدودة الدخل ليس الحل الأمثل. وقد تجسّد هذا التوجه فى استراتيجية مصرية تركزت على تحسين الامتثال الضريبى ودمج الاقتصاد غير الرسمى، مع الاعتماد الكامل على آليات رقمية متطورة شملت منظومة الإقرارات والفواتير الإلكترونية، وربط قواعد البيانات الضريبية والجمركية، مما أسفر عن تقليص ملحوظ للفجوة بين حجم النشاط الاقتصادى الفعلى وإيرادات الخزانة العامة. غير أنّ الإنفاق بقى التحدى الأكبر، لا سيما فى ظل حيز مالى محدود جدًا بضغط من خدمة الدين، وضغوط تضخمية متتالية تطلبت تدخلات متكررة لحماية الفئات الأكثر هشاشة. فقد تبنّت الدولة مسارًا تدريجيًا لإعادة هيكلة الدعم السلعى، بحيث يصبح أكثر استهدافًا وأقل كلفة، بما يضمن وصوله لمستحقيه دون تشويه الأسعار. هذه المقاربة استخدمتها دول شرق أوروبا بعد جائحة كورونا، حيث اضطرت بولندا والمجر ورومانيا إلى إعادة تصميم منظومة الدعم تدريجيًا مع الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار الاجتماعى. ولم يكن تخفيض الدعم فى حد ذاته هدفًا، بل وسيلة لإعادة توجيه الموارد إلى مجالات ذات أثر تنموى أطول، مثل الاستثمار فى البنية التحتية والصحة والتعليم. • • • فى الوقت ذاته، برز الإنفاق الاستثمارى كإحدى أدوات الدفع الرئيسية للحفاظ على طاقة الاقتصاد الإنتاجية، رغم ضغوط التمويل وارتفاع تكلفة الاقتراض. فقد أثبتت التجارب الدولية، خصوصًا فى إندونيسيا والبرازيل، أن الاقتصادات الخارجة من صدمة كبرى لا يمكنها الاعتماد على سياسة تقشفية صرفة، لأن ذلك قد يؤدى إلى ركود ممتد وفقدان الوظائف وتراجع الإيرادات. ولذلك حافظت مصر على مستوى معين من الإنفاق الاستثمارى فى قطاعات النقل والطاقة والبنية الأساسية، بهدف رفع القدرة التنافسية للاقتصاد وزيادة إنتاجيته على المدى المتوسط. لكن أولويات الإنفاق الاستثمارى ظلت متحيزة بعيدًا عن الاستثمار فى رأس المال البشرى لصالح الاستثمار فى البنية الأساسية المادية، وامتدت إلى قطاعات وأنشطة تزاحم القطاع الخاص ولا تمهّد له أرض الملعب. ولا يمكن تناول تحولات المالية العامة دون الإشارة إلى العلاقة مع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولى. فبرامج التعاون بعد الجائحة لم تكن مجرد أدوات تمويل، بل تضمنت اشتراطات مرتبطة بتعزيز مرونة السوق، وتحسين إدارة الدين العام، وتطوير سياسات سعر الصرف، ورفع كفاءة الإنفاق. وقد واجهت دول كثيرة التحدى ذاته، من بينها الأرجنتين وسريلانكا وغانا، التى اضطرت إلى إعادة التفاوض مع المؤسسات الدولية سعيًا لتحقيق التوازن بين متطلبات الاستقرار المالى والحفاظ على النمو الاقتصادى. ورغم التحديات، كانت هناك مؤشرات تحسّن لا يمكن تجاهلها، أبرزها تحقيق فائض أولى متزايد وإن كان محدودًا، لكنه مؤشر يعكس قدرة الدولة على تغطية نفقاتها الجارية من إيراداتها دون اللجوء للاقتراض. فى الأرجنتين والبرازيل، كان الوصول إلى الفائض الأولى نقطة فاصلة فى مسار ضبط المالية العامة، لأنها تمنح الحكومات مساحة للتحرك خارج ضغوط خدمة الدين. وفى الحالة المصرية، يشير الفائض الأولى إلى وجود درجة من الانضباط المالى، لكنه لا يغنى بطبيعة الحال عن التعامل مع ملف الدين العام الأكثر تعقيدًا. • • • ملف الدين العام على وجه التحديد يُعد واحدًا من أكبر التحديات فى مرحلة ما بعد كوفيد 19. فمعظم دول العالم خرجت من تلك المرحلة بارتفاعات تاريخية فى مستويات الدين، نتيجة التوسع فى الإنفاق الاجتماعى والصحى، وانكماش الإيرادات خلال فترة الإغلاق. ومن ثم لجأت حكومات عدة إلى إعادة هيكلة دينها عبر إطالة آجال الاستحقاق وتقليل الاعتماد على الديون قصيرة الأجل عالية الكلفة. فعلت ذلك المكسيك وكوريا الجنوبية وتركيا، وهى المقاربة نفسها التى تتبعها الحكومة المصرية حاليًا لتخفيف الضغط السنوى على الموازنة. وقد أظهرت التجربة التركية خصوصًا أهمية توزيع آجال الدين على منحنى أطول لتقليل مخاطر التجديد المتكرر وارتفاع الفائدة. ولعل التعدّى المتفق عليه مع الصندوق على مبدأ عدم تخصيص الموازنة ساعد المالية العامة على خفض رصيد الدين الخارجى من إيرادات الصفقات الاستثمارية والبيعية الكبرى مثل صفقة رأس الحكمة الشهيرة، التى خُصِّص نحو نصف إيراداتها لخفض الدين العام. وفى ظل تضخم حجم الموازنة، أصبح من الضرورى البحث عن حلول مبتكرة لسد الفجوة التمويلية. فليس من الممكن الاعتماد على الضرائب وحدها فى ظل مساهمة متواضعة للقطاع الخاص وضعف الإنتاجية، كما أن خفض النفقات بشكل حاد قد يعرّض النمو الاقتصادى للخطر. لذلك اتجهت الدولة إلى إعادة توزيع الإنفاق لصالح قطاعات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية (بشكل تدريجى)، ووضعت فى مقدمة أولوياتها (المعلنة) تحسين مناخ الاستثمار بهدف جذب رءوس الأموال القادرة على خلق وظائف حقيقية وتعزيز الإنتاج. وقد أثبتت تجارب شرق آسيا، خاصة ماليزيا وكوريا الجنوبية بعد الأزمات المالية، أن الاستثمار الإنتاجى هو الطريق الأكثر فاعلية للخروج من الأزمات وليس التقشف أو الضبط المالى وحده. • • • أما تأثير هذه التحولات على المواطن، فهو بطبيعته متباين؛ فقد استفادت نسبيًا الفئات الأكثر هشاشة من برامج الحماية الاجتماعية التى توسعت بعد الجائحة وإن ظلت متواضعة وغير كافية، لكن الطبقة المتوسطة تحمّلت القدر الأكبر من الضغوط، نتيجة ارتفاع الأسعار وتآكل القوة الشرائية وتقليص بعض بنود الدعم. ولم تكن هذه الظاهرة محصورة فى مصر، بل شهدتها دول متقدمة مثل بريطانيا وكندا التى واجهت ارتفاعات غير مسبوقة فى تكلفة المعيشة بعد الجائحة. وفى كل تلك الحالات، كان استقرار السياستين المالية والنقدية شرطًا أساسيًا لتخفيف الضغوط واحتواء التضخم فى الأجل المتوسط.