منذ أن برزت أول قطرة نفط فى صحراء الخليج، وغرب مصر مثل ليبيا والجزائر، وحياة المصريين فى تغير واضح، فإذا نظرت إلى قاهرة 2025 كما هى الآن بمبانيها العالية الفخمة وشوارعها الواسعة ووسائل المواصلات الراقية عليك أن تتأكد أن كل هذا التغيير جاء من خلال حملات الهجرة المندفعة نحو الحدود خارج مصر، أذكر أنك لو شاهدت أفلامًا تم إنتاجها فى النصف الأول من الخمسينيات فسوف تجد القاهرة الحقيقية متمثلة فى بيوت خشبية قديمة وفقيرة تعيش فيها الأسر مكدسين معًا، وربما تحتوى الشقة الصغيرة على ثلاث أو أربع أسر، ومن هذه الأفلام مثلًا «رنة الخلخال»، وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ رأينا قاهرة جديدة تُبنى على شاطئ النيل فى فيلم «فضيحة فى الزمالك»، حيث يبدو الأفق خاليًا إلا من عمارات تتم زرعها لتمتلئ فيما بعد بالبشر، هؤلاء قاموا بالسفر إلى دول البترول والعودة محملين بما يسمى بالترودولار، كان أول ما حدث أن أبناء الريف دمروا الأرض الزراعية التى حصلوا عليها من الإصلاح الزراعى وبنوا البيوت الإسمنتية فوق الطين، وتطورت عملية البناء حتى وصلت إلى الحالة الحالية للكثير من المدن الصغيرة التى كانت من الأرياف، حيث العمائر العالية جدًا تحتضن بعضها. بنى هذه العمائر فى الريف والمدن كل من ذهب إلى الخليج، وعاد ليدمر أرضه ويغير حياته، وبعد أن انتهت حرب أكتوبر بدأت السينما تقدم هذه الأماكن بشكلها الجديد، وقد عاد إليها المصريون ليسلكوا حيوات جديدة جدًا. من هذه الأفلام مثلًا «عودة مواطن» إخراج محمد خان عام 1986، وهو فيلم تدور أحداثه فى القاهرة، حيث يعود شاكر إلى مدينته القاهرة بعد ثمانٍ سنوات من العمل فى الغربة، هذه المدة كافية ليعود شاكر محملا بأرقام مالية تجعله قادرًا على أن يشترى ما يشاء، والغريب أنه فى هذا الفيلم فإن البيت الذى يرجع إليه شاكر يتكون من دور واحد، قديم لم تضف إليه طوبة واحدة، ولم يهتم شاكر بالتغيرات التى لم تحدث فظل المكان ساكنا ثابتا، والذين تغيروا هم إخوته الأربعة، ليست هناك إشارة فى الفيلم إلى تاريخ وفاة الأب والأم، ولكن من الواضح أن أصغرهم سنًا كان بالفعل فى حاجة إلى رعاية عندما بدأت رحلة السفر، ومن الواضح أن شاكر لم يكتف بهذه السنوات فى الغربة فهو مثل كل من يعود يدبر أمره أنه فى زيارة للوطن الذى تغيرت ملامحه جذريًا، وطوال هذه الفترة القصيرة التى استعد فيها شاكر للسفر مرة أخرى لعدد من السنوات التى لا يعرف قدرها أو مقدرها فإنه يلاحظ أن إخوته الأربعة قد تغيروا تماما وأن الوحيد الذى لم يتغير هو خاله الذى يعيش على الماضي. الفيلم فيه الأخت الكبرى فوزية التى وجدت نفسها تتقن صناعة الحلويات وتتاجر فيها أى أنها بعودة أخيها كشفت عن التغيرات التى حدثت لها، أما أخوها الصغير فقد لجأ إلى الإدمان والسياسة وعرف الاعتقال، بينما الأخ الأكبر فهو خريج إحدى الجماعات وقد مرت عليه السنوات دون أن يجد عملا يناسبه فأصابته حالة من الاكتئاب بينما الأخت الثانية نجوى تعمل كمضيفة فى أحد الفنادق، لاحظ أن هذه النماذج قد تم توزيعها على الأفلام المصرية بالتساوى فى المراحل اللاحقة وحتى الآن، فما زالت الهجرة فى أوجها ولا تزال الغربة شديدة ولا تزال عمارات الأسمنت تعلو أكثر وأكثر، ولا نعرف ماذا سوف سيكون عليه الغد. نحن لا نعرف كيف قضى شاكر سنواته فى الغربة، وكيف كسب أمواله وما الذى دفعه إلى البقاء هناك طوال تلك السنوات، وكما أشارنا فإن عودته مؤقتة ويصدم فى التغيرات التى حدثت لكل أفراد الأسرة دون أن يتجمعوا على هدف واحد، فلقد عجز شاكر عن أن يلم إخوته حوله، خاصة أن الأخت الكبرى عرفت لذة كسب المال وصارت تدخن، وعندما يقرر شاكر السفر إلى الخليج مرة أخرى فإننا نكتشف أنه لم يركب الطائرة وكل ما فعله هو البقاء فى المطار دون أن يعرف ماذا سيفعل فى الغد.