تخيل نفسك في شرفة بأحد أحياء مصر الجديدة؛ تجلس فيها صباحًا على كرسي لاحتساء كوب من الشاي واللبن، وتستمع إلى أنغام المذياع، ويزين سورها بعض نباتات الزينة وشجرة فراولة، فيما تطل بعينك على شارع حيوي يضج بحركة السيارات والناس، هكذا تنشغل الفنانة رانا سليمان، في بناء عالم كامل؛ عالم يشبه الواقع لكنه بحجم راحة اليد لا يتجاوز سنتيمترات باستخدام «فن المصغّرات»؛ ذلك الفن الآسر الذي يجمع بين الخيال والدقة، ويحول خامات بسيطة إلى مشاهد تنبض بالحياة. بدأت رحلة رانا مع الفن عندما كانت تبلغ من العمر 9 سنوات، فبمادة الصلصال أبدعت قطعًا فنية لا تضاهي أعمال زملائها في المدرسة، وهو ما لفت انتباه معلمتها التي طلبت لقاء والد رانا لتخبره بأهمية التركيز والاهتمام وتنمية تلك الموهبة، وشراء الخامات والأدوات اللازمة لها. وتقول رانا في حديثها مع «الشروق»، إن والدها لم يتأخر عن تلبية طلباتها، لدرجة أنها كانت تمتلك كل أنواع الألوان التي يستخدمها أي فنان محترف، والأدوات والخامات التي تؤهلها لتصبح فنانة عندما كانت تبلغ من العمر 10 سنوات فقط. لكن مسيرتها الفنية لم تأخذ مسارًا تقليديًا؛ فغياب فرصة الالتحاق بكلية الفنون الجميلة دفعها إلى دراسة الإعلام، لتتجه بعدها إلى تصميم الجرافيك لفترة قصيرة قبل أن تتوقف تمامًا عن العمل بعد الزواج وإنجاب ثلاثة أطفال. - ابتلاء شديد أعادني لمسيرتي الفنية.. والمصغرات حققت لي الاستقرار النفسي تروي رانا، للمرة الأولى تفاصيل لحظة التحول الكبرى في حياتها وسبب عودتها للانطلاق في مسيرتها الفنية، بعد توقف دام سنوات، وتقول إنها تعرضت لحادث وابتلاء شديد تسبب لها في «هزة كبيرة»، وهو وفاة ابنة أختها؛ الطفلة الصغيرة التي كانت تعتبرها كابنتها، فضلًا عن تعرض ابنها في نفس اليوم لكسر في الذراع، واضطراره لإجراء عملية وعمره لم يتجاوز العامين. لم تستوعب الشابة البالغة من العمر 38 عامًا ما حدث، وخلال أسبوعين شعرت بأن الحزن «أكل قلبها»، لذلك قررت العودة إلى ملاذها الآمن «الفن»، وإخراج كل مشاعر الحزن التي مرت بها في تصميم منزل عرائس لابنتها؛ استغرق تطويره والاهتمام بكامل تفاصيله عامين، لكنه غيّر حالتها من أقصى الحزن إلى الاستقرار النفسي. - بداية رحلة البحث عن الذات ومن خلال هذا البيت المصغّر الذي صممته بأبسط المواد المعاد تدويرها من المنزل، بدأت رانا رحلة بحثها عن شغف جديد. جرّبت الكروشيه وأعمالًا يدوية أخرى قبل أن تصل إلى «فن المصغّرات» عبر دورة تدريبية غيّرت مسارها الفني بالكامل. «لم آخذ الموضوع في البداية على محمل الجد، ولم أكن متحمسة، لكنني بعد الالتحاق بالدورة أحببت المجال جدًا، وتفوقت فيه، ومنذ العمل الفني الأول شجعني جميع من حولي لإنشاء صفحة على مواقع التواصل وتنفيذ المزيد من الأعمال الفنية»، تضيف رانا. لأنها عاشقة للتفاصيل والديكور، وجدت الشابة في المصغرات الوسيلة الأصدق للتعبير عن رغبتها في تجسيد عوالم عاشت في ذاكرة المصريين، وتنفيذ أعمال متأثرة بفترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، والتي ترى أنها من «العصور الذهبية»؛ بسبب الرقي والهدوء ودفء البيوت الذي تقول إنه غائب الآن. تنوعت أعمالها ما بين الشعبي والكلاسيك والحديث، واستطاعت في بداية مسيرتها أن تثبت موهبتها بجدارة، فشاركت في تنفيذ مصغرات لعدد من الأفلام الوثائقية، وعُرضت أعمالها داخل وخارج مصر، كما استعانت بها القنصلية المصرية لدى ألمانيا في تنفيذ منحوتات مصغرة لأفلام تحكي عن الحضارة العربية والإسلامية، بهدف ربط المصريين بالخارج بهويتهم. - أحتفظ ببصمتي مع تطوير أعمالي باستمرار البداية القوية منحتها دفعة وثقة للانطلاق في المجال ومحاولة تطوير أعمالها بشكل مستمر، فرغم تمسكها ببصمتها الفنية، إلا أنها حريصة على تنفيذ أعمال مختلفة دون الوقوع في فخ التكرار، فعناصر تصميمها لإحدى الشرفات في منطقة مصر الجديدة تختلف تمامًا عن عناصر تصميم شرفة بإحدى المناطق الشعبية، مع الحفاظ على الروح المصرية المميزة لكل منها. وتحرص رانا، على أن تكون أعمالها «أيقونة» تترك أثرًا في نفوس متابعيها، وتعتمد في أعمالها بنسبة تتراوح ما بين 40% إلى 50% على مواد موجودة في المنزل أُعيد تدويرها، وذلك بخلاف الأخشاب ومواد البناء المشابهة للحقيقية كالإسمنت والمعجون والدهانات حتى يشعر المشاهد بصدق العمل. وتشير إلى أنها تسمح أحيانًا للجمهور بلمس المعروضات حتى يعيش القصة كاملة؛ فهي ترى أن الأمر لا يقتصر على مجرد صورة جميلة، وإنما رواية قصة وخوض ذكريات مختلفة عبر الاهتمام بكل تفصيل في العمل.
لا يقتصر «المصغرات» بالنسبة للفنانة التشكيلية على التصميم المُتقن فقط، فهناك عناصر فنية أخرى تحتاج إلى تكامل وحرفية لإظهار الواقع بنفس شكله، كما يحدث في الخدع السينمائية، فالشخص عندما ينظر إلى المصغرات يظن للوهلة الأولى أنها بالحجم الطبيعي، لكن حجمها في الأساس لا يتخطى مجرد سنتيمترات. وتواصل في حديثها: «الموضوع لا يقتصر على تفاصيل وعناصر مصغرة، لابد من الاهتمام بالإضاءة والخلفيات والتقنيات المختلفة كالإخراج والمونتاج والجرافيك، لإخراج المشهد بصورة واقعية تجذب المشاهد، ويعد وضع اللمسات الأخيرة وجمع القطع لتجسيد العمل الفني كما رسمته في خيالي، من أمتع مراحل الإنتاج». - نقلة جديدة من المصري إلى الأوروبي حاليًا، تخوض رانا مغامرة جديدة، بانتقالها من تصميم المشاهد المصرية والعربية إلى مساحات أوروبية، بدءًا من تصميم مطبخ إيطالي بستايل السبعينيات، ووصولًا إلى عمل مستوحى من الحضارة الأندلسية في إسبانيا، تشارك فيه بتصميم الدمى والديكورات لفيلم أطفال بتقنية «الستوب موشن». وتسعى الشابة بالتوازي إلى نقل خبراتها عبر أكاديميتها الخاصة لتعليم فن «المصغرات» إلى أجيال أخرى؛ تتمنى أن يصبحوا فنانين عالميين ويتركوا بصمات فنية في كبرى المعارض الدولية، فهذا الفن بمثابة متنفس لأي شخص يرغب في معاصرة أحد الأزمنة التي لم يعشها، أو توثيق لحظة معينة تترك مشاعر أو أثرًا في ذاكرته. في المقابل، ترى رانا، أن المصغرات مرتبطة ب«استحضار الحالة» كالفنان الذي يحتاج إلى تقمص الشخصية ليتقن دوره، لأن الفن ليس مجرد وسيلة لتحقيق الكسب المادي، لكنه الملاذ الآمن الذي تهرب إليه من ضغوط ومشكلات الدنيا، مضيفة: «أحاول تطوير ذاتي طوال الوقت ولا أكتفي بمسار معين في أعمالي، ولو لم أستحضر الحالة أثناء العمل أعتذر عنه وأرشح شخصًا آخر». ونوهت أن «المصغرات» لا يحظى بحقه مقارنة بالمجالات الفنية الأخرى كالرسم والنحت، فبعض الأشخاص لا يفهمون طبيعة عملها، رغم دخوله في العديد من المجالات كالخدع السينمائية والإعلانات وأفلام ومسلسلات الكارتون. وتؤكد أن الاهتمام به - خاصة في مجال توعية الأطفال – سيحقق نقلة كبيرة في ظل الاعتماد الهائل في مسلسلات وأفلام الكارتون القائمة على الثقافة الأوروبية وشركات الإنتاج العالمية، وليس الثقافة العربية بقيمها ومبادئها. وأعربت عن استعدادها للانضمام إلى أي فريق عمل يبدأ مشروعًا ضخمًا في هذا المجال، خاصة أن أغلب المشروعات القائمة على فن «المصغرات» تقتصر على الجهود الذاتية، وعادة لا تستمر بسبب عدم توفر الموارد المالية والإنتاجية الضخمة. وتختتم حديثها: «معظم عملي مع الأطفال لأنني مدرسة رسم، وإذا خاطبنا هذا الجيل باللغة التي يفهمها عبر فن المصغرات من خلال إنتاج عربي كبير يشترك فيه فنانون من مختلف المجالات، كالإنتاجات المخصصة لشهر رمضان، نستطيع أن نترك تأثيرًا وبصمة تمتد لأجيال وأجيال».