يتعاظم مجددا خطر الحرب الأهلية فى السودان، عبر أطول حدود لمصر مع دولة مجاورة، بعد تقدم ميليشيات الدعم السريع للهيمنة على دارفور، وتهديد الخرطوم. وللأسف تنافس عدة قوى إقليمية ودولية على موقع وخيرات السودان يجعلها تتصرف بلا رشادة، فتتوهم أن اعتمادها على ميليشيات مسلحة سيحقق لها أهدافها دون الانخراط المباشر فى الصراع. لذلك نرى تدفق الإمدادات على ميليشيات الدعم السريع أملا فى حسم الموقف على حساب الجيش السودانى. ويستمر ذلك حتى بعد المجازر المروعة التى ارتكبت فى الفاشر يوم 26 أكتوبر الماضى، والتى نبهت العالم لحقيقة ما يجرى على الأرض. فما السيناريوهات المتوقعة لهذه الأزمة؟ • • • قبل استعراض السيناريوهات المستقبلية، لابد من الإشارة إلى التداعيات الحالية للحرب فى السودان، والتى تنذر بعودة موجة النزوح واللجوء لدول الجوار، وعلى رأسها مصر. لو لا قدر الله تجددت موجات اللجوء، فمن الصعب التكهن بحجمها، واستمراريتها، ولكن من الممكن إدراك الضغوط التى ستمثله على الاقتصاد المصرى، الذى بدأ للتو رحلة التعافى، فى ظل صمود الهدنة الحالية فى غزة، وما تبعها من تحسن ملحوظ فى نسب المرور فى قناة السويس. وفى هذا السياق، تعد مسألة دعم الجيش السودانى مصيرية، لأن صمود الجيش الوطنى كفيل بالحفاظ على وحدة وتماسك السودان. لسنا بحاجة إلى استعراض الزلزال والاستنزاف الذى ستتعرض له مصر حال سقوط الجيش السودانى. مسألة أخرى يجب أن نضعها نصب أعيننا ونحن نحاول فهم سيناريوهات المستقبل للسودان الشقيق. فبعض قوى الظلام تريد الوصول للبحر الأحمر على جثة السودان. منها دول حبيسة تريد الحصول على منفذ بحرى عسكرى بأى وسيلة، مثل إثيوبيا. علما بأن الأخيرة كان لها ترتيبات سلمية للوصول للبحر الأحمر عبر جيبوتى، ولكنها تريد نشاطا بحريا عسكريا وليس تجاريا. ومن ثم هددت الصومال، عبر أرض الصومال، من قبل ولم تفلح محاولاتها، والآن تهدد أريتريا وتريد الوصول لميناء «عصب» الذى يبعد 60 كم فقط عن الحدود الإثيوبية. ولكن لا أريتريا لقمة سائغة، ولا تعاونها العسكرى مع مصر ورقة هينة. إذن، ننظر للدعم الإثيوبى لميليشيات الدعم السريع على أنه سياسة تهدف لاستفزاز مصر لتنشغل بالحرب الأهلية السودانية ومن ثم يتراجع دعمها لأريتريا، وجيبوتى، والصومال، وذلك يمنح إثيوبيا الفرصة لتحقيق هدفها، على غرار ما فعلته من قبل فى سد النهضة عندما انشغلت مصر بتبعات ثورة يناير فأقدمت الأخيرة على بناء سد النهضة. لو أن المسألة تكمن فى التعامل مع التصعيد الإثيوبى المندفع، لأمكن احتواء الخطر سريعا، لكن الأمر يشمل التعامل مع طموح بعض القوى الإقليمية التى تستعمل إثيوبيا، والتى منها من يريد وصولها إلى البحر الأحمر لتغير تركيبة الدول المتشاطئة، ومن ثم استعمالها لصد الحوثيين، والأهم استعمالها كنقطة تحكم فى مسار حركة الملاحة القاصدة قناة السويس. ومنها قوى أخرى، كانت فى السابق جزءًا من سلطنة عمان قبل أن يصنع لهم الإنجليز دولة، ويبدو أنها تريد أن ترث ما كان يعرف فى السابق بسلطنة زنجبار، وهى السلطنة البحرية التى امتدت من سلطنة عمان مرورا بساحل اليمن وساحل شرق إفريقيا حتى تنزانيا الآن، والتى كانت دولة بحرية عربية عظيمة فى تكوينها، وأهدافها، وأعمالها. من هنا يأتى دعم بعض هذه القوى المباشر لقوات الدعم السريع، لتحقيق نفس الهدف، وهو شغل مصر بحرب السودان الأهلية حتى يسيطروا على باب المندب. عنصر آخر فى السودان، بخلاف موقعها، يجمع مصالح بعض القوى الإقليمية مع المصالح الروسية، وهو عنصر الذهب. هو عنصر حاسم يمد روسيا بالكثير مما تحتاجه لتقوية ميزانيتها الحربية فى ظل عقوبات الغرب الصارمة. الذهب دفع بالفيلق الإفريقى، الذى كان يُعرف - سابقا- باسم شركة فاجنر الروسية، بالانخراط فى عمليات عسكرية مباشرة فى دارفور، لتأمين إمدادات الذهب إلى روسيا، التى تفعل كل شىء مهما كانت قسوته للحصول على المعدن الأصفر. يظن البعض أن المصالح تقتصر على ربط الفيلق الإفريقى بميليشيات الدعم السريع، لكن نفس الدول المذكورة فى الفقرة السابقة، بالإضافة لأخرى غرب السودان منخرطة فى هذه الحرب، إذ تتدفق عبر حدودها الإمدادات للميليشيات، حتى تفاجأ الجميع بهجوم جوى فى المثلث الحدودى وجبل العوينات وجبل أبو سنون، يستهدف العديد من الإمدادات وعلى رأسها الوقود. إن الذهب أقوى من السيف، لذلك ستستمر الميليشيات فى الحرب من أجله أو تهلك دونه. • • • نلاحظ فى كل ما سبق بأن الولاياتالمتحدة تتابع ولا تتدخل، فلماذا لا يتدخل الرئيس ترامب فى هذه الحرب ويضيفها إلى سجله الحافل بإنهاء الحروب؟ هل لأن أحدا لا يبكى على السودان؟ أم لأن ما يحدث يأتى على هواه؟ أو لأنه ينتظر حتى تتقاطع حرب السودان مع المصالح الإسرائيلية فيتدخل فورا؟ لو كان السودان يملك نفط نيجيريا لوجدنا اهتماما مفاجئا من ترامب، فعلى سبيل المثال هدد الرئيس الأمريكى الحكومة النيجيرية، يوم 4 نوفمبر، بالمواجهة إذا استمر ما وصفه «بالتقاعس عن حماية المسيحيين»، وكأن الإرهاب هناك لا يحصد من المسلمين. على أى حال، نفسر سكوت إدارة ترامب عما يجرى فى السودان بأنه يأتى على هواه إلى أن تكتمل الضغوط على مصر، وذلك ضمن الأوراق التى تحتاجها الولاياتالمتحدة وإسرائيل لاستعدال توازن القوى الذى تغير بعد إحكام الجيش المصرى تواجده فى مختلف مناطق سيناء. • • • الآن نصل إلى السيناريوهات التى نراها تنحصر فى ثلاث. أولها، استمرار تقدم ميليشيات الدعم السريع لتحكم السيطرة على دارفور، يليها الخرطوم، وبورتسودان. وهذا أسوأ سيناريو وكفيل بتعطيل جهود مصر، وفتح الباب أمام تغيير كافة المعادلات، ليس فقط فى السودان، ولكن فى البحر الأحمر والقرن الإفريقى. ثانيها، حسم الجيش السودانى الموقف الميدانى، لاسيما فى ظل تزايد الغارات الجوية التى تستهدف كل الإمدادات الواردة للميليشيات. وهذا السيناريو يعطل أحلام أو يطيح بأوهام العديد من القوى الإقليمية، التى للأسف لا تدرك الخطأ الاستراتيجى إلا بعد فوات الأوان. وثالثها، دخول قوى أخرى تكتفى الآن بالمتابعة دون الانخراط فى المسألة، مثل الولاياتالمتحدة، والتى قد تغير التوازنات لصالح قوى معينة بحسب الرغبات الإسرائيلية، مما يجعل التعامل مع المسألة أكثر تعقيدا. يظن البعض أن هناك سيناريو رابعا وهو بقاء الحال على ما هو عليه. ونحن نستبعد هذا السيناريو لعدم واقعيته. لكن الأقرب أن يؤدى الدعم المصرى، الأريترى، الذى يشهد تأييدا سعوديا - تركيا على غير المتوقع، إلى تغيير دفة الأحداث لصالح الجيش الوطنى السودانى حتى النقطة التى تتدخل فيها الولاياتالمتحدة فى محاولة لمنع انهيار ميليشيات الدعم السريع، لأن انهيارها يغير المعادلة لصالح مصر..