صباح يوم الأربعاء الماضى، تناولت العناوين فى إسرائيل، حصريا، فوز زهران ممدانى فى انتخابات رئاسة بلدية نيويورك، وتجاهلت القصة الأكبر فى الانتخابات التى جرت فى الولاياتالمتحدة يوم الثلاثاء الماضى: سلسلة من الانتصارات الواضحة للحزب الديمقراطى، من الساحل إلى الساحل. يمكن تفهُّم التركيز الإعلامى على ممدانى: أول رئيس بلدية مسلم فى تاريخ نيويورك، وناقد شديد لإسرائيل، يُنتخب فى مدينة تضم أكبر تجمّع سكانى يهودى فى العالم، إنه حدث إخبارى دراماتيكى يستحق تغطية واسعة، لكن من المهم أن نفهم أن هذه ليست سوى قطعة واحدة من «بازل» أكبر، يُظهر واقعا سياسيا إشكاليا جدا على الساحة الأمريكية، بالنسبة إلى إسرائيل. لقد أُجريَت الانتخابات بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لفوز ترامب فى نوفمبر 2024، وشملت سلسلة من الاقتراعات فى مختلف الولايات، والخلاصة أنها، جميعها، انتهت بانتصار كاسح للديمقراطيين. على سبيل المثال، ولاية فيرجينيا التى اختارت المرشحة الديمقراطية أبيغيل سبانبرغر، بعد أربعة أعوام من حكم الجمهوريين، بفارق غير مسبوق، بلغ 15%. وهى الولاية التى خسر فيها ترامب العام الماضى بفارق 5% فقط، بينما توقعت استطلاعات الرأى نتيجة مشابهة هذه المرة، لكنها أخطأت فى تقدير «الموجة الزرقاء» التى أغرقت الجمهوريين هناك. تكررت القصة ذاتها فى نيوجيرسى؛ حيث أظهرت الاستطلاعات الأخيرة سباقا متقاربا جدا على منصب الحاكم، إلى درجة أن ترامب نفسه اختار التدخل فى الحملة الانتخابية، وحثّ الناخبين اليهود المتدينين فى الولاية، مرتين خلال 24 ساعة، على التصويت للمرشح الجمهورى، لكن الاستطلاعات أخطأت، وتبيّن أن تعبئة الناخبين الحريديم لم يكن لها أى أثر، وفازت المرشحة الديمقراطية ميكى شيريل بفارق أكثر من 10%، وهو ما دحض كل تقديرات الخبراء والمحللين ومواقع المراهنات. أمّا فى كاليفورنيا، فصوّت الناخبون بأغلبية كبيرة لمصلحة خطة الحاكم الديمقراطى غافين نيوسوم، لإعادة ترسيم دوائر الكونجرس فى الولاية، بطريقة ستمنح الديمقراطيين عددًا من المقاعد الإضافية فى انتخابات منتصف المدة المقبلة. وفى الوقت عينه، أعيدَ انتخاب ثلاثة قضاة من الليبراليين فى المحكمة العليا لولاية بنسلفانيا. كانت هذه الانتصارات متوقعة، لكن الفارق الكبير لمصلحة الديمقراطيين، المستنِد إلى نِسب مشاركة مرتفعة، وخصوصا فى أوساط الشباب، هو جوهر القصة. هذه الأرقام غير عادية، وأوضَح كثيرا من نتائج انتخابات 2017 التى جرت فى ظل الولاية الأولى لترامب. حتى آنذاك، حقق الديمقراطيون مكاسب جيدة، لكن ليس بهذا الحجم. ترامب سارع إلى التعليق على النتائج، قائلاً إن الجمهوريين خسروا لأن اسمه لم يكن موجودا على بطاقات الاقتراع هذه المرة. هذا القول صحيح، جزئيا فقط. فعلاً، يواجه الحزب الجمهورى منذ سنة 2016 صعوبة فى تحفيز ناخبيه عندما لا يكون ترامب نفسه على ورقة التصويت، ولهذا، مُنى بخسائر موجعة فى سنتَى 2017 و2018، بينما حقق الديمقراطيون نتائج مفاجئة لمصلحتهم فى انتخابات منتصف ولاية بايدن فى سنة 2022. لكن، بينما لا يخرج الجمهوريون للتصويت ما لم يظهر اسم ترامب على البطاقة، فإن الطرف الآخر خصومه خرجوا بأعداد هائلة للتصويت ضده، وهذا وحده يفسر التسونامى الأزرق فى صناديق الاقتراع. علاوةً على ذلك، تدخّل ترامب بشكل فعلى وكبير فى نيويورك ونيوجيرسى، ويبدو كأن تدخّله هذا لم يؤذِ سوى المرشحين الجمهوريين. يتعين على ممدانى، مثلاً، أن يرسل للرئيس ترامب باقة زهور، امتنانًا لتدخُّله فى اللحظة الأخيرة لمصلحة الحاكم السابق أندرو كومو، فربما أبعدَ هذا التدخل عن كومو آخر المترددين من ناخبى الحزب الديمقراطى. بالنسبة إلى إسرائيل، ليس فقط المهم فوز ممدانى فى نيويورك، بل تزامنه مع الانتصارات الديمقراطية العامة فى مختلف أنحاء الولاياتالمتحدة. إن فوز الديمقراطيين، الذى سيعيد تشكيل الخطاب والتوقعات قبل انتخابات منتصف المدة فى العام المقبل، يأتى فى وقتٍ وصلت مكانة إسرائيل داخل الحزب الديمقراطى إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، لدرجة أن الديمقراطيين الأكثر اعتدالاً من رئيس بلدية نيويورك الجديد يرفعون نبرة الانتقاد لإسرائيل، ويجدون صعوبة كبيرة فى دعمها، مثلما كانت عليه الحال فى الماضى. إن فوز ممدانى يمنح الجناح الأكثر انتقادا لإسرائيل داخل الحزب الديمقراطى دفعة قوية، لكن الانتصارات فى نيوجيرسى، وفيرجينيا، وكاليفورنيا، وجورجيا، وبنسلفانيا، وغيرها من الولايات، تعزز الحزب الديمقراطى بأكمله. ومن غير المستغرب أن هذه النجاحات تعتمد على نسبة مشاركة عالية بين الشباب- الفئة العمرية الأكثر انتقاداً لإسرائيل. فى المدى الطويل، وبالنظر إلى وضع إسرائيل المتردّى لدى الرأى العام الأمريكى، فإن هذه التطورات المهمة تتطلب تعديلات على السياسة والخطاب الإسرائيليَّين. والجدير بالذكر أن مكانة إسرائيل داخل الحزب الجمهورى أيضا لم تعُد مثلما كانت عليه، فى ظل تصاعُد نفوذ التيارات المعادية لإسرائيل، ولليهود، فى صفوف جيل الشباب من اليمين الأمريكى. فهل هناك احتمال لتكيُّف الحكومة الإسرائيلية الحالية مع هذا الواقع، أو حتى مناقشته؟ أمير تيفون هاآرتس مؤسسة الدراسات الفلسطينية