ثلاثة أفلام شاهدتها أخيرا فى مهرجان الجونة تناولت شخصيات غريبة الأطوار نوعا ما لكُتاب مبدعين من بلدان وثقافات مختلفة. الأول بعنوان «أميلى الصغيرة» وينتمى لنوعية الرسوم المتحركة، وهو مستوحى من رواية المؤلفة البلجيكية أميلى نوتومب «شخصية المطر» أو «ميتافيزيقا الأنابيب» بالفرنسية التى صدرت للمرة الأولى عام 2000. تستدعى الكاتبة فى العديد من رواياتها أجزاءً من سيرتها الذاتية، وهذه المرة صحبتنا إلى اليابان خلال الستينيات حيث قضت أول سنوات حياتها بصحبة أسرتها. عمل والدها كدبلوماسى وبالتالى تنقلت بين الدول ولم تعد نهائيا إلى بلجيكا إلا وهى فى السابعة عشرة من عمرها بعد فترات متقطعة أمضتها فى مناطق مختلفة من آسيا، لذا لم تكن مندمجة فى الحضارة الغربية وظل الكثيرون يعتبرونها من المغردين خارج السرب. فى هذه الرواية تجعلنا نغوص داخل الطفلة التى كانت وهى بين الثانية والثالثة من عمرها، ونكتشف العالم بعينيها. وهى مرحلة مهمة فى حياتها لأن مخ الأطفال ينمو بسرعة كبيرة حتى سن خمس سنوات، كما أن أميلى نفسها تأثرت بشكل كبير باليابان التى تركتها على مضض ووصفتها بأنها «بلاد الجمال»، بل واعتبرت أن مربيتها هناك، والتى نراها بصحبتها طوال الوقت فى الفيلم، كانت بمثابة أمها الثانية ولم ترغب فى الافتراق عنها أبدا. نتنقل بين الطبيعة الساحرة بفضل شريط التحريك الذى شارك فى إخراجه اثنان من تلاميذ مدرسة جوبلان الفرنسية الشهيرة وهما ميليس فالند وليان شو هان، وخلال هذه الرحلة نلمس صعوبة تقبل اليابانيين لما قاسوه خلال الحرب العالمية الثانية، إذ كانوا يعتبرون كل القادمين من الغرب مسئولين عن معاناتهم، وانطبق ذلك بالطبع على أهل أميلى التى لم تفهم الموقف المتشدد لصاحبة البيت وتوبيخها للمربية حين اصطحبت الصغيرة إلى طقس الأموات بالقرب من البحيرة، كواحدة من أبناء البلد. يعتمد الفيلم على المشاعر أكثر من الكلمات وقد نجح فى إيصالها ببراعة والتزم بخط درامى وسردى واضح يجعله فى متناول الجميع بما فى ذلك الأطفال، أما الكبار فاقتربوا أكثر من شخصية الروائية التى بدأت ملامح تركيبتها غير التقليدية تتكشف منذ الصغر، فهى كما قالت لها مربيتها تشبه قطرة المطر فى تجددها الدائم وقدرتها على أن تهب الحياة، فالشق الأول من اسمها «آم» ما هو إلا الحرف اليابانى الذى يعنى المطر، وكأن مصيرها مكتوب سلفا ومقدر لها أن تكون روائية غزيرة الإنتاج تفيض بالإبداع الذى يجعل مؤلفاتها تتصدر دائما قائمة الأكثر مبيعا بلغات مختلفة، وأن تكون أيضا شخصية استثنائية غير متوقعة قد تظهر وتختفى فى أى وقت. • • • فيض المطر لا يوافق شخصية أميلى نوتومب وحدها، بل يناسب أيضا لورينز هارت (1895-1943) الشاعر الغنائى الأمريكى الموهوب الذى استلهم منه المخرج ريتشارد لينكليتر آخر أفلامه «القمر الأزرق»، وهو عنوان أغنية من تأليف الأول، لم يحبها كثيرا لكنها لاقت نجاحا ملحوظا فى ثلاثينيات القرن الماضى. يروى الفيلم سيرة لورينز هارت من خلال ليلة واحدة قضاها فى مطعم وبار «سارديز» بنيويورك والذى كان ملتقى مشاهير برودواى، صادفت هذه الليلة افتتاح مسرحية «أوكلاهوما!» فى 31 مارس 1943. النجاح الساحق لهذا العرض المسرحى الغنائى كان له وقع كبير على الشاعر، فقد شكل لعقدين من الزمان ثنائيا مع ملحنها وصديقه ريتشارد رودجرز، أحد أبرز الموسيقيين الأمريكيين فى القرن العشرين. نرى كل أسماء برودواى اللامعة فى ذلك الحين تتحرك داخل المطعم، والشاعر تتملكه الحسرة لكنه يحاول أن يخبئ مشاعره، فهو لا يحتمل أن يعمل رفيقه مع غيره وأن تتوارى عنه الأضواء بعد أن أدمن شرب الكحول. خلال فترة الكساد الكبير كان هارت يكسب ستين ألف دولار سنويا وجذب الكثير من الناس حتى بدأ فى الاختفاء لأسابيع دون سابق إنذار وصار يعانى من مشكلات السُكر المتكرر. انفصل عنه صديقه وشريكه فى العمل الذى قرر أن يتعاون مع آخرين، وهذه الليلة كانت تكليلا لنجاحه بدونه. فى جوٍ ملىء بموسيقى الجاز والورود والنكات، يكشف المخرج ومؤلف الفيلم - الروائى روبرت كابلو صاحب «أنا وأورسون ويلز» - عن الوجه التعس للورينز هارت، صاحب العديد من الأغنيات المرحة الساخرة. نتابع حالة الانهيار التى سبقت وفاته بشهور قليلة متأثرا بالتهاب رئوى حاد. ظل يهذى ويتكلم كثيرا مع كل الموجودين فى المكان، وأغلبهم من المتعاطفين معه ويشعرون بمرارته لكنهم لا يملكون مساعدته. جسد الشخصية الرئيسية إيثان هوك الذى ظهر أصلع وقصير القامة، حتى إنه كان من الصعب التعرف عليه، ليقترب شكله من الشاعر الذى مات وهو فى منتصف الأربعينيات تقريبا، أى أصغر سنا من الممثل ببضع سنوات. مونولوجاته بدت طويلة لا تنتهى وتبعث على السأم، إذ امتدت لقرابة الساعتين، وعكست جنون الشاعر، لكنها كانت أكثر افتعالا من تلك التى ألقاها ممثل آخر، وهو الكولومبى أوبيمار ريوس بطل فيلم «شاعر» للمخرج سيمون ميسا سوتو. • • • لعب أوبيمار ريوس دور شاعر محبط ويعاقر الخمر ويهذى هو الآخر. الفيلم ليس مأخوذا عن سيرة ذاتية كما الفيلمين السابقين، لكنه يصور شخصية كتلك التى نقابلها كثيرا فى الأوساط الثقافية ويمكن أن نلتقيها فى جميع بلدان العالم. مبدع بزغ نجمه فجأة، ثم خفت ضوؤه سريعا، ولم يحتمل شخصه الضعيف كل هذه التغيرات فصار يعاقر الخمر ليهرب من الواقع ومن وحدته بعد أن ابتعدت عنه زوجته وابنته. تركيبة هشة، شخصية أخرى من شخصيات المطر، تابعناها من خلال أحداث الفيلم البديع الذى لا يخلو من حس فكاهة محبب لدينا ويقترب من طبيعتنا الشرقية. تتوالى المشاهد الساخرة التى تعبر عن مأساة شاعر لم يكتب حرفا منذ خمسة عشر عاما، حين يلعب الخمر برأسه يصب غضبه على جارسيا ماركيز، معلنا أنه يفضل عليه شاعر كولومبى رحل مبكرا وهو جوزيه أسونسيون سيلفا، ويشرح تأثره بصدقه وتجاربه الذاتية. ذات مرة، خلال عمله كمدرس، يكتشف موهبة شاعرة ضمن طلاب فصله، يحاول أن يلعب معها دور المنقذ - المخلص، كمن يسعى لتدارك أخطائه السابقة فى حق نفسه، ثم تحدث فى الأمور أمور. هؤلاء ممن يخرجون عن السياقات العامة جعلوا للأفلام الثلاثة نكهة خاصة، فذهبت إلى مهرجانات دولية، خاصة برلين وكان، وحازت جوائز قبل أن تصل إلينا فى الجونة ونستمتع بعمق أصحابها.