لماذا تنتشر بعض الأفكار أكثر من غيرها؟ لماذا تنتشر الأفكار الكاذبة أكثر؟

هل «الزن على الودان أمرّ من السحر؟»
كيف تستغل الشركات الكبرى هذا الموضوع؟
ماذا نفعل كأفراد حيال الأفكار المنتشرة؟
نحن نعيش فى عصر البيانات الغفيرة ومصادر المعلومات (الصحيحة والخاطئة) الكثيرة، فى وسط هذا الخضم من المعلومات تولد الأفكار، هناك ملايين من الأفكار حولنا، منها ما يظهر ثم يموت، ومنها ما يعيش حياة قصيرة، ومنها ما ينتشر كالنار فى الهشيم حتى وإن كان خطأ، مثلا هناك عدد لا بأس به من الناس على كوكبنا يؤمنون بأن الأرض مسطحة. الأفكار سلاح خطير وتأثيره على المدى الطويل يكون أقوى من القنابل.
مقالنا اليوم يناقش الكيفية التى تنتشر بها الأفكار والأسباب التى تجعل بعض الأفكار تنتشر والبعض الآخر يموت، فأرجو من القارئ الكريم أن تعجبه «فكرة» هذا المقال، وتكون مفيدة.
• • •
أسباب انتشار الأفكار
من الممكن أن نجد عدة أفكار حول الموضوع الواحد لكن هناك فكرة منها تنتشر أكثر من غيرها وتعيش لمدة أطول، السبب قد لا يكون متعلقا بصحتها، لكن هناك عدة أسباب أخرى:
• السهولة: كلما كانت الفكرة بسيطة وسهلة فإنها تنتشر بين الناس أسرع من الأفكار المعقدة، الناس متفاوتة فى الفهم وبالتالى عندما تريد أن تصل لعدد من الناس وتؤثر فيهم يجب أن تكون فكرتك (أو منتجك) سهلة الفهم والاستعمال والتطبيق.
• التأثير العاطفى: عامل مساعد مهم فى انتشار الفكرة، الفكاهة تندرج تحت العامل العاطفى، فالفكاهة تقلل من التوتر وتزيد من الراحة النفسية، التأثير العاطفى يمكن أيضا أن يكون الخوف أو الانبهار، إلخ.
• عنصر المفاجأة: عندما تكون الفكرة خارجة عن المألوف، لكنها ليس بعيدة عن المنطق، أى إنها تقع فى دائرة الإمكان، فإن الناس تلاحظها وتتابعها أكثر من الأفكار العادية.
• الملاءمة لشخصية الفرد: لكل منا تجاربه الشخصية، إذا كانت الفكرة متوائمة مع تجارب الشخص ومعتقداته فإنه يتحمس لها، لذلك فالشركات الكبرى المتحكمة فى وسائل التواصل الاجتماعى تستطيع معرفة تجارب ومعتقدات الناس فى كل منطقة وبالتالى تستطيع نشر الأفكار التى تلائمهم، وقد تابع الكثيرون ما يقال عن استخدام تلك الوسائل فى التأثير على الناخبين فى أمريكا.
• الانتشار: عندما يجد شخص أن هناك فكرة يتبناها الكثيرون فإنه يكون أكثر استعدادا لتقبلها هو الآخر.
• استخدام المشاهير: أو كما يُطلق عليهم الآن «المؤثرون» فى نشر فكرة معينة، المشاهير يؤثرون على متابعيهم، خاصة لو كان المتابعون من السن الصغيرة.
لا نستطيع أن نقول إن تلك القائمة تشتمل على كل الظروف التى تجعل من الفكرة تنتشر، لكن على الأقل تعطى فكرة عن كيفية انتشار الأفكار.
• • •
أمثلة من أفكار انتشرت انتشارا واسعا
من أشهر الأفكار التى انتشرت انتشارا واسعا فى أمريكا فى الوقت الراهن هى فكرة «نجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى»، سبب الانتشار الواسع لهذه الفكرة هو سهولة تقبلها من الأمريكيين، بالإضافة إلى تأثيرها العاطفى وملاءمتها للكثير من المواطنين خاصة فى الولايات الوسطى أى بين الساحلين الشرقى والغربى.
فكرة أخرى انتشرت انتشارا واسعا حال ظهورها هى فكرة العملات الرقمية (bitcoin) واستخدامها، ذلك لغرابة فكرة وجود عملة بدون بنك وتستخدم تكنولوجيا متقدمة، سبب الانتشار هو التأثير العاطفى وعنصر المفاجأة والملاءمة لشخصية الجيل الجديد الذى ينبهر بالتكنولوجيا.
انتشار فكرة الBrexit أى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى جاء من فكرة سهلة (وبالتالى ساعدت على الانتشار) وهى (Take Back Control) أى لنستعيد السيطرة مرة أخرى والتى أطلقها دومينيك كمينجز كبير مستشارى رئيس الوزراء آنذاك بوريس جونسون، طبعا لا نغفل التأثير العاطفى للجملة.
الكاتب الكندى الشهير مالكوم جلادويل ناقش فكرة انتشار الأفكار (سواء فى صورة فكرة مجردة أو منتج) فى كتابه (Tipping Point) أو «نقطة التحول»، وشبه انتشار الأفكار بانتشار الأوبئة، وقد جاء بنقاط تشبه ما ناقشناه أعلاه وأضاف إليها وجود الظروف المناسبة، فمثلا برنامج مثل زووم المستخدم لعقد الاجتماعات عبر الانترنت لم يكن لينتشر هذا الانتشار الكبير لو لم تتهيأ ظروف الكوفيد وجلوس الناس فى بيوتها لمدد طويلة.
العالم الفرنسى العظيم جوستاف لوبون (Gustave Le Bon) لديه الكثير ليقوله عن انتشار الأفكار، لكنه ينظر للموضوع من ناحية الجماهير، الأفكار فى النهاية تنتشر بين جماهير عريضة، يقول لوبون إن الفرد فى وسط الجماهير يفقد بعض تفرده ويصبح جزءا من كل، لا حظ ما ذكرناه عن أن الشخص الذى يجد الكثيرين قد تبنوا فكرة معينة فإنه يكون أقرب لتبنيها أيضا.
يقول لنا لوبون إن الجماهير مع بعضها تحركها العواطف وليس التفكير المنطقى، لذلك الأفكار التى تعتمد على العاطفة تنتشر سريعا، خاصة لو نشرها بينهم من يحمل كاريزما قوية، والأمثلة على ذلك كثيرة فى التاريخ.
لوبون شرح لنا لماذا تنتشر الأفكار بينما جلادويل شرح لنا كيف تنتشر الأفكار. لكن ماذا عن حياة تلك الأفكار بعد انتشارها؟ هل تموت؟
• • •
متى تموت الفكرة؟ ومتى تعيش لسنوات؟
الفكرة تموت إذا لم تكن لها القدرة على التطور مع ظهور أجيال جديدة من الناس بطرق تفكير مختلفة، كما أن الفكرة تموت إذا لم يكن لها جانب عاطفى. على العكس من ذلك الأفكار ذات الطابع العاطفى مثل الوطنية تعيش خاصة لو تم تذكير الناس بها بطرق مختلفة مثل وسائل التواصل الاجتماعى والأدبيات والمحاضرات إلخ مع تهيئة المجال والظروف لبقائها.
الأفكار من أهم الوسائل التى تستخدمها الشركات للترويج لمنتجاتها، فالمنتج أو الخدمة هو فى النهاية فكرة. من أفضل الشركات فى ذلك شركة آبل فى فترة قيادة ستيف جوبز، عندما ظهر الipod لم يكن الجهاز الأول فى الأسواق من نوعه، لكن تصميم جهاز الipod جعله سهل الاستخدام جدا، راجع فكرة السهولة فى القائمة أعلاه. السيارات الكهربائية من شركة تسلا انتشرت لأن إيلون ماسك وهو من المشاهير حتى من قبل تسلا ساهم فى هذا الانتشار مع أن هناك شركات أخرى تصمم سيارات كهربائية، بل وبعضها أفضل من تسلا.
الشركات أيضا تساعد على انتشار أفكارها عن طريق إعطاء جوائز أو تخفيضات لمن ينشر الفكرة أو المنتج (referral)، لذلك عندما تجد أصدقاءك يدلونك على منتج جديد فإنك ستنضم للجماهير بسهولة.
• • •
بعد كل ما ذكرناه ماذا نفعل حيال تلك الأفكار التى تتطاير من حولنا؟ وكيف نميز الغث من السمين؟
• التفكير النقدى هو السلاح الأول، وقد ذكرناه فى الكثير من المقالات السابقة ولن نمل من تكراره، هذه المهارة يجب أن نتعلمها ونعلمها للطلبة فى المدارس والجامعات. التفكير النقدى يعتمد على طرح الأسئلة المناسبة لكشف صحة، أو عدم صحة، أو فائدة الفكرة أو المنتج.
• لا تعتمد على مصدر واحد للفكرة أو الرأى، بل احصل عليها من عدة مصادر وقارن بين ما سمعته من المصادر المختلفة، تلك المقارنة تعتمد على المهارة السابقة أى التفكير النقدى.
• لا يجب أن نظل فقط أهدافا للأفكار، بل يجب أن نطرح أفكارنا أيضا، وهذه مهارة أخرى يجب أن نعلمها للطلبة وهى مهارة الابتكار، وهى مهارة لها أساليبها وليست مجرد فكرة تظهر فجأة.
عن طريق الأفكار يمكن السيطرة على الشعوب... الفكرة سلعة وسلاح وأيضا حائط صد