محافظ كفر الشيخ يتابع استعدادات انتخابات مجلس النواب ويعلن خطة طوارئ شاملة لضمان سير العملية الانتخابية    عضو بالشيوخ يدعو المواطنين للمشاركة في الانتخابات: صوتك أمانة    المستشارة أمل عمار تدلي بصوتها في انتخابات مجلس النواب 2025 غدا    استمرار فعاليات التدريب المشترك "ميدوزا -14" بمصر |صور وفيديو    السبت المقبل.. الأهرام إبدو تنظم المؤتمر الاقتصادي المصري الإفريقي الأول    سعر الفراخ مساء الأحد 23 نوفمبر 2025    أستراليا: الإعصار فينا يتجاوز داروين ويتحرك إلى بحر تيمور    ترامب ينتقد أوكرانيا لعدم إظهارها أي امتنان للدعم الأمريكي    ترامب يكشف عن استعداده لتصنيف الإخوان "منظمة إرهابية"    الجونة يضاعف معاناة الاتحاد السكندري بثنائية في الدوري    خطة ليفربول لموسم 2025/26: أسلوب اللعب، التشكيل، ودوري الأبطال    الأرصاد تحذر من أمطار رعدية وسيول محتملة في بعض محافظات مصر غدًا    التحقيقات تكشف أسرار صادمة في قضية المتهم بقتل صديقه مهندس الإسكندرية    غرق طفل في نجع حمادي أسفل كوبري شرق النيل يعيد التحذيرات من مخاطر الاقتراب من مجرى النهر    شيرين عبد الوهاب: لن أعتزل أنا قوية    انطلاق فعاليات مؤتمر الصناعات الثقافية والإبداعية وأبعادها التنموية بالعريش    مخرج «الحياة بعد سهام» نمير عبد المسيح: صنعت الفيلم لحاجتي الماسة إلى الحكي عن علاقتي بأبي وأمي    حمدى باتشان لليوم السابع: الحمد لله نجلى أحمد بخير بعد تعرضه لحادث    لبدء إنشاء مبنى جديد.. تسليم موقع وحدة القصر الصحية في مركز الداخلة    ضبط سائق ميكروباص خالف الحمولة القانونية بعد تداول فيديو بالفيوم    توقيع بروتوكول تعاون لتجهيز مكتب توثيق الخارجية فى كفر الشيخ    عودة النصر للسيارات.. انطلاقة صناعية جديدة تقودها الربحية والتطوير الشامل    وزير الصحة يبحث جهود توطين تكنولوجيا الأجهزة الطبية وتطوير الخدمات التشخيصية    الصحة العالمية تكرم الزميلة أمل علام لفوزها بجائزة AMR Media    الجونة يتقدم على الاتحاد السكندري بهدف في الشوط الأول    تأجيل محاكمة 17 متهما بخلية العجوزة    "تصميم وتشييد وتقييم الفاعلية البيولوجية لمشتقات جديدة من البنزايميدازول" رسالة دكتوراه بجامعة بنى سويف    لفصل بعضهم.. زامير يستدعي ضباطا كانوا على رأس عملهم ب7 أكتوبر    بأمر النائب العام.. متابعة حالة الطفلة حور ضحية التنمر    تشكيل إنتر ميلان ضد ميلان المتوقع في قمة الدوري الإيطالي    مركز المناخ بالزراعة يحذر من أمطار تصل لحد السيول يومي الأحد والاثنين    الإفتاء تكرم المفتين السابقين وأسر الراحلين في احتفالها بمرور 130 عامًا على إنشائها    إنشاء محطة لتموين قاطرات قناة السويس بالغاز الطبيعي المسال    رئيس جامعة أسيوط يهنئ طلاب ذوي الهمم لحصولهم على 22 ميدالية    تعرف على غيابات الزمالك في مواجهة زيسكو الزامبي بالكونفدرالية الليلة    الشروط والمستندات.. وظائف مشروع الضبعة النووي برواتب تصل ل45 ألف جنيه    أغنية إيطالية عن "توت عنخ آمون" تشعل المنصات وتعيد وهج الحضارة المصرية للعالم    وزارة الصحة: لقاح الأنفلونزا هام لكبار السن لحمايتهم من العدوى    موعد ميلاد هلال شهر رجب 1447 وأول أيامه فلكيا . تعرف عليه    ازدحام غير مسبوق للشاحنات الإنسانية عند معبر رفح وسط استمرار الأزمة بغزة    وزير الاستخبارات الإيراني يحذر من محاولات أمريكية وإسرائيلية لاستهداف المرشد أو إثارة الاضطرابات في الداخل الإيراني    تحصين 94,406 رأس ماشية عبر 1,288 فرقة بيطرية خلال 4 أسابيع بأسيوط    وزير الخارجية يبحث مع رئيس وزراء قطر تطورات الأوضاع في قطاع غزة    إذاعة الجيش الإسرائيلي: معلومات حساسة مكنت «الفصائل» من تنفيذ هجوم 7 أكتوبر    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : فانصروا الوطن يرحمكم الله !؟    كلية التمريض بجامعة القاهرة الأهلية تنظم ندوة توعوية بعنوان "السكري والصحة | غدًا    أسامة الأزهري: الإفتاء تستند لتاريخ عريق ممتد من زمن النبوة وتواصل دورها مرجعًا لمصر وسائر الأقطار    مواجهات مثيرة.. مواعيد مباريات اليوم الأحد والقنوات الناقلة    نصر: قيمة رعاية الزمالك لا تصل للربع بالنسبة للأهلي    مصطفى كامل: محدش عالج الموسيقيين من جيبه والنقابة كانت منهوبة    كمال أبو رية يكشف حقيقة خلافه مع حمادة هلال.. ويعلق: "السوشيال ميديا بتكبر الموضوع"    مركز المناخ يتوقع تقلبات جوية قوية يومى الإثنين والثلاثاء.. وسيول محتملة    «سويلم» يتابع منظومة الري والصرف بالفيوم.. ويوجه بإعداد خطة صيانة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 23-11-2025 في محافظة قنا    وزير الري: أي سدود إثيوبية جديدة بحوض النيل ستقابل بتصرف مختلف    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأحد 23 نوفمبر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 22-11-2025 في محافظة الأقصر    خلاف حاد على الهواء بين ضيوف "خط أحمر" بسبب مشاركة المرأة في مصروف البيت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اقتصاديات الساحل «الشرير»
نشر في الشروق الجديد يوم 15 - 09 - 2025

قبل أيام روى لى صديق أنه التقى ببعض معارفه فى واحدة من أرقى قرى الساحل الشمالى، وبسخائه المعتاد اصطحبهم إلى مطعم أنيق يطل على البحر لتناول وجبة الغداء. لم تحمل المائدة سوى بضعة أصناف من المقبلات، وطبقين رئيسيين ومشروبات. لكن ما إن حانت لحظة الحساب، حتى قدمت النادلة ورقة صغيرة تحمل رقمًا صاعقًا: واحدًا وثلاثين ألف جنيه!! بدا عليه الذهول قبل أن يحاول التخفيف من وقع الصدمة بابتسامة محدثًا نفسه: «لقد دفعت فى هذه الجلسة ثمن ثلاث سيارات من أولى السيارات التى امتلكتها».
لم يكن الرقم مجرد قيمة فاتورة، بل تجسيدًا صارخًا للهوة بين زمنين ورجلين: شاب اشترى سيارته الأولى بعشرة آلاف جنيه، ورجل يسدد اليوم أضعاف ذلك فى وجبة واحدة. هكذا تبدو اقتصاديات الساحل الشرير مرآة لتشوهات أعمق من مجرد اختلاف الأسعار، فهى تكثيف للتفاوت الحاد بين بقعة جغرافية محدودة وبقية أنحاء الجمهورية. تفاوت لا يمكن تفسيره فقط بقوانين العرض والطلب، بل بشىء من الخلل فى بنية الاقتصاد وطرق توزيع الموارد.
فعلى امتداد الساحل الشمالى والمنتجعات الفارهة المحيطة به، تحلّق أسعار العقارات إلى مستويات خيالية لا صلة لها بالواقع المعيشى لغالبية المواطنين، ويجر وراءه ارتفاعًا مماثلًا فى أسعار السلع والخدمات. زجاجة مياه أو وجبة عادية هناك يمكن أن تُسعَّر بأضعاف مثيلاتها فى القاهرة أو الإسكندرية أو الصعيد، وكأن الساحل يشكل اقتصادًا موازيًا تدور فيه تدفقات مالية هائلة، لكنه يظل منفصلاً عن الاحتياجات الفعلية لبقية المجتمع.
هذه الظاهرة ليست مصرية خالصة، بل عرفتها اقتصادات عديدة، ففى إسبانيا مثلاً، تحولت بعض المدن الساحلية مثل «ماربيا» و«برشلونة» إلى بؤر للمضاربات العقارية، حتى تجاوزت الأسعار قدرة السكان المحليين على السكن فى مناطقهم الأصلية. وفى اليونان، قبل أزمتها المالية، تركزت الاستثمارات العقارية فى جزر محددة، مما خلق تفاوتًا حادًا بين هذه الجيوب السياحية والبرّ الرئيس. التجربة الصينية أيضًا ملهمة؛ حيث ارتفعت أسعار العقارات فى مدن الساحل الشرقى بشكل جنونى مقارنة بالداخل، حتى إن الاقتصادى الأمريكى «جوزيف ستيجليتز» أشار إلى أن هذه الفقاعة العقارية يمكن أن تكون مدخلاً لانفجار اقتصادى إن لم تُحكم الدولة السيطرة عليها بسياسات ضريبية وأدوات تمويلية مناسبة.
• • •
لكن مصر تواجه هذا التفاوت فى سياق مختلف، فالساحل ليس مجرد مركز سياحى موسمى، بل تحول إلى مرآة للفجوة الطبقية التى تتسع يومًا بعد يوم. حين تُدفع ملايين الجنيهات فى وحدات سكنية لا تُشغل إلا أسابيع معدودة فى العام، بينما يعانى ملايين آخرون من صعوبة الحصول على مسكن لائق، يصبح الاقتصاد مهددًا بما يسميه «توماس بيكيتى» «ديناميكيات التركّز الرأسمالى»؛ حيث تعيد الثروة إنتاج ذاتها فى دوائر مغلقة، بعيدًا عن آليات إعادة التوزيع. بيكيتى يرى أن غياب سياسات ضريبية تصاعدية عادلة يفتح الباب لمثل هذه الاختلالات، وهو ما ينطبق إلى حد بعيد على واقعنا الراهن.
إن ما يجرى فى الساحل الشرير لا يتوقف عند العقار وحده، بل يمتد إلى كل الخدمات والسلع المرتبطة به. نظرية «العدوى السعرية» التى تحدث عنها الاقتصادى الأمريكى «روبرت شيلر» تفسر كيف تنتقل التوقّعات المبالغ فيها من قطاع إلى آخر، ومن منتج إلى آخر. فإذا قبل المستهلك دفع عشرة أضعاف ثمن وجبة غذاء فى مطعم ساحلى، فسيجد البائع مبررًا لرفع سعر أى سلعة أخرى، بحجة أن السوق تقبّل ولم يعترض. بهذا تنشأ حلقة مفرغة، حيث تُخلق الأسعار من ذاتها، بعيدًا عن كلفة الإنتاج الحقيقية أو مستويات الدخول المتاحة.
كنت قد تناولت جانبًا من هذه الظاهرة فى مقالى المنشور بجريدة الشروق فى أغسطس 2021، حين وصفت اقتصاد الساحل بأنه «سوق غرور» أكثر منه سوق عقار أو خدمات، حيث يتحوّل السعر المبالغ فيه إلى غاية فى ذاته، لا انعكاسًا للتكلفة أو الندرة. أشرت وقتها إلى أن زجاجة المياه أو وجبة الطعام قد تُباع بأضعاف ثمنها فى القاهرة أو الإسكندرية، لمجرد أن المستهلك يبحث عن مظاهر المكانة الاجتماعية. اليوم، وبعد مرور أعوام على ذلك المقال، تبدو الظاهرة أكثر رسوخًا واتساعًا، ما يفرض إعادة النظر فى أدوات التعامل معها، ويؤكد أن التحذيرات السابقة لم تجد آذانًا صاغية، وأن الفقاعة التى وصفتها حينها لم تنفجر لكنها تضخمت. (ملحوظة خلال الفترة بين 2021 و2025 ارتفع ثمن وحدة سكنية لأحد الأصدقاء من 14 مليون جم إلى 70 مليون جم، فقط لأنها فى الساحل الشرير).
• • •
تبدو المعضلة فى مصر أشد وطأة، إذ لم يعد الساحل مجرد ظاهرة اقتصادية، بل تحوّل إلى رمز ثقافى أيضًا. فصور المنتجعات وحفلاتها تنتشر على نطاق واسع لتغذى نزعة استهلاكية محمومة، وتجعل من مظاهر الإنفاق الباذخ معيارًا اجتماعيًا يُحتذى، لا مجرد تفضيل فردى. وهنا يطل التحذير الذى أطلقه «ثورستين فبلن»، واضع نظرية «الاستهلاك التظاهرى»؛ حيث رأى أن إسراف الطبقات العليا لا يستهدف الإشباع بقدر ما يبتغى إبراز المكانة، وهو ما يفرض على الطبقات الأدنى ضغوطًا لمجاراة هذا السلوك، ولو جاء ذلك على حساب حاجاتها الأساسية.
وقد اختلفت ردود الأفعال الحكومية تجاه تلك الظاهرة باختلاف الفلسفات الاقتصادية والاجتماعية. فبينما اتجهت بعض الحكومات إلى فرض ضرائب تصاعدية على الملكيات غير المستغلة، كما حدث فى إسبانيا، لجأت أخرى إلى سياسات تقييدية للحد من الاحتكار العقارى، مثلما طبّقت الصين قيودًا على تملك الأسر للوحدات السكنية. وفى تجارب أخرى، حاولت دول مثل البرازيل معالجة الاختلال عبر سياسات موازنة تنموية تهدف لربط المناطق الساحلية الفاخرة بمناطق الداخل.
ورغم تعدد الأدوات والمناهج، تبقى المعضلة الأساسية قائمة: كيف يمكن تحقيق توازن بين آليات السوق الحرة ومتطلبات العدالة الاجتماعية فى المناطق ذات الطبيعة الاقتصادية الخاصة؟ سؤال تختلف إجاباته باختلاف الثقافات والسياقات، لكنه يظل واحدًا من أكثر الأسئلة إلحاحًا فى حوكمة الاقتصادات المكانية غير المتوازنة.
أما فى مصر، فيدور النقاش فى حلقة مفرغة بين فريقين: فريق يرى فى الساحل الشمالى متنفسًا ضروريًا للنخبة، يُدِرّ العملة الصعبة ويجذب الاستثمارات، وفريق يحذّر من تحوّله إلى كانتون منعزل يستهلك موارد البلاد دون عائد حقيقى على التنمية. لكن الاقتصاد الحقيقى لا يعترف بهذه الثنائية المبسَّطة. فالمعضلة ليست فى اختيار بين التنمية والعدالة، بل فى كيفية تحقيق تنمية عادلة تدمج اقتصاد الساحل فى النسيج الاقتصادى الوطنى. بدون رؤية متكاملة تحوّل هذه الاستثمارات إلى محرّك للتنمية الإقليمية، وتضمن عدالة فى توزيع العوائد، سيظل الساحل اقتصادًا طفيليًا يزيد من حدة التفاوت ويُهدد التماسك الاجتماعى على المدى البعيد.
لا بد هنا من العودة إلى أقوال «ميلتون فريدمان» الذى أكد أن حرية السوق لا يمكن أن تزدهر دون قواعد واضحة للعبة، وأن انحراف الأسعار بعيدًا عن أسس العرض والطلب يعنى أن السوق لم تعد حرة بحق، بل مختطفة من قبل فئة محدودة. فى المقابل، يرى «كينز» أن مثل هذه الاختلالات تستدعى تدخلاً نشطًا من الدولة، سواء عبر الضرائب أو عبر الاستثمار المباشر فى مشروعات الإسكان والخدمات. المزج بين الرؤيتين قد يكون مدخلًا مناسبًا للحالة المصرية: ضبط القواعد وتقييد المضاربة، بالتوازى مع توجيه موارد إضافية لتوسيع قاعدة المستفيدين.
• • •
المطلوب إذًا ليس مصادرة حق أحد فى التملك أو الاستمتاع بالساحل، بل تصحيح الخلل البنيوى الذى يجعل من زجاجة ماء على الشاطئ سلعة شبه فاخرة. المطلوب أن يشعر المواطن فى أسيوط أو المنيا أو دمياط أن ما يُستثمر فى الساحل يمكن أن يعود عليه بخدمة عامة أفضل، أو فرصة عمل حقيقية، أو مدرسة حديثة، أو مستشفى مجهّز. فاقتصاد الساحل إذا ظل شريرًا، فلن يكون شرّه قاصرًا على من يعيش داخله، بل سيمتد أثره إلى كل ربوع الوطن. التجارب الدولية تعلّمنا أن ترك الفقاعة تتضخم ينتهى عادة بانفجار موجع، بينما التدخل المبكر بذكاء وحزم قد يحوّل الظاهرة من تهديد إلى فرصة.
وبهذا المعنى، يصبح الساحل مرآة لامتحان قدرة الاقتصاد المصرى على تحقيق التوازن بين رفاه النخبة واحتياجات الأغلبية. هو اختبار حقيقى لمدى فعالية السياسات العامة فى كبح جماح التفاوت، وتحويل الانفاق الاستهلاكى المسرف من مجرد رمز للترف إلى محرك للنمو الشامل. وهنا تكمن مسئولية الدولة لا فى الشعارات، بل فى الأرقام والسياسات والضرائب والاستثمارات الموجهة. فإذا نجحت مصر فى إعادة دمج الساحل فى منظومة التنمية الوطنية، فسيغدو الساحل خيرًا، لا شرًا، وإذا أخفقت فسيبقى شاهدًا على اقتصاد مزدوج يزداد انقسامًا يومًا بعد يوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.