مع بدايات العام الميلادى الجديد 2024، تبدو احتمالية التمدد الإقليمى للحرب فى غزة أعلى مما كانت عليه منذ 7 أكتوبر 2023. فمن جهة أولى، صعدت إسرائيل من هجماتها ضد حزب الله فى الجنوباللبنانى واغتالت قيادات عسكرية منتمية لحركة حماس داخل ضاحية بيروتالجنوبية. وعلى الرغم من أن الحديث التالى لاغتيال قيادات حماس من قبل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، لم يحمل تصعيدا مفتوحا ضد إسرائيل، إلا أن فرص خروج الأمور بين الطرفين عن السيطرة تظل قائمة، خاصة مع تواصل سقوط الضحايا المدنيين فى جنوبلبنان واستمرار تهجير أكثر من 100 ألف إسرائيلى من المناطق الحدودية. من جهة ثانية، لم تتوقف جماعة الحوثيين عن تهديدها لحرية الملاحة فى البحر الأحمر وإطلاقها لصواريخ ومسيرات تستهدف سفنا وحاويات بعضها كان متجها للموانئ الإسرائيلية وبعضها الآخر كان فى سبيله إلى وجهات مغايرة وبعضها الثالث هو من القطع العسكرية التابعة للقوات البحرية الأمريكية والأوروبية. وعلى الرغم من أن التحالف الدولى الذى كونته الولاياتالمتحدة وتشارك دول مختلفة تمكن من تحجيم أضرار صواريخ ومسيرات الحوثيين وأخطارها خلال الأيام الماضية، إلا أن فرص التصعيد عند المدخل الجنوبى للبحر الأحمر (مضيق باب المندب) وفرص تمدد المواجهات لتشمل بحر العرب (ذلك الجزء من المحيط الهندى الذى تطل عليه دول شبه الجزيرة العربية) والخليج تظل حاضرة بقوة. من جهة ثالثة، لم تغب عن الأيام الماضية عمليات عسكرية متنوعة الأطراف والوجهات شهدتها الأراضى العراقية والسورية وتورطت بها إما ميليشيات تابعة لإيران هاجمت أهدافا أمريكية وردت عليها القوة العظمى بضربات محددة، أو قامت بها إسرائيل مستهدفة منشآت ومخازن تستخدمها إيران وميليشياتها فى رسالة متكررة مفادها أنها قادرة على خوض حرب على جبهات متعددة وأن من الأفضل الابتعاد عن استفزازها إقليميا. هنا أيضا، ومع أن حسابات كافة الأطراف من حكومات دول وميليشيات تبدو متوافقة على الامتناع عن التصعيد غير محسوب العواقب، تظل فرص الانفلات وخروج المواجهات بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جهة وإيران وميليشياتها من جهة أخرى قائمة. من جهة رابعة، رفعت تفجيرات مدينة كرمان الإيرانية من درجات السيولة الإقليمية بإدراجها للجمهورية الإسلامية ضمن حزام النار الممتد من فلسطين وإسرائيل مرورا بلبنان وسوريا إلى العراق واليمن وبإلحاق دماء الأبرياء من الإيرانيين بخرائط دماء الأبرياء الآخرين الذين تتصدرها دماء أطفال غزة. بعيدا عن الجهة المسئولة عن تفجيرات كرمان وحساباتها، لا يؤشر إزهاق المزيد من أرواح المدنيين والذى افتتحته حماس فى 7 أكتوبر 2023 دمويا وأطلقت إسرائيل آلة قتلها لإنزال العقاب الجماعى والجرائم ضد الإنسانية بالشعب الفلسطينى منذ 8 أكتوبر 2023، لا يؤشر سوى إلى المزيد من القابلية الإقليمية لاتساع خرائط الدماء والدمار. • • • هل يعنى كل ذلك أن تحول الحرب فى غزة إلى حرب إقليمية صار أمرا محتوما وأضحى من الواجب علينا فى مصر والدول الشرق أوسطية الأخرى الاستعداد لها ولتداعياتها على المصالح الوطنية والأمن القومى؟ الإجابة هى أن التمدد الإقليمى للحرب ما زال قابلا للاحتواء والتحجيم بتطبيق مجموعة من الإجراءات والسياسات التى تستهدف خفض مناسيب الصراع فى الشرق الأوسط وإعادة الوساطة والدبلوماسية والسياسة إلى ما بين إسرائيل وفلسطين بحثا عن تسوية سلمية على المدى الزمنى القصير والمتوسط تتطور إلى حل سلمى نهائى. يتمثل الإجراء الأول الضرورى فى وقف فورى لإطلاق النار فى غزة ووضع نقطة النهاية على العمليات العسكرية الإسرائيلية التى قتلت أكثر من 20000 مدنى ودمرت ما يقرب من ثلثى البنى التحتية والمنشآت العامة والخاصة فى غزة ورتبت النزوح الداخلى لما يقرب من مليون ونصف من سكان القطاع يتكدس منهم اليوم ما يصل إلى مليون طفل وامرأة ورجل فى مدينة رفح على الحدود المصرية. لا حل فى هذا الصدد سوى بعودة جهود الوساطة المصرية والقطرية وبدعم أمريكى إلى البحث عن صفقة لتبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين ترتب هدنة لعدة أسابيع تتطور إلى وقف لإطلاق النار وبحث إقليمى ودولى فى ترتيبات إعادة الاستقرار والأمن لغزة ورفع معدلات دخول المساعدات الإنسانية والانتقال منها إلى جهود إعادة الإعمار، وتهدئة الأوضاع فى الضفة الغربية والقدس الشرقية، ومنع تهديد سلامة سكان البلدات الإسرائيلية فى غلاف غزة، والحيلولة دون التصعيد بين إسرائيل وحزب الله وفرض حالة من الهدوء تحمى المدنيين الأبرياء فى جنوبلبنان وتسمح بعودة المهجرين الإسرائيليين إلى منازلهم القريبة من المناطق الحدودية. أما الإجراء الثانى الضرورى، فيتمثل فى تواصل عبر وسطاء إقليميين ودوليين بين إسرائيل وإيرانوالولاياتالمتحدةالأمريكية بشأن الحيلولة دون انفلات الأوضاع على الجبهات اللبنانية والسورية والعراقية وكذلك احتواء خطر التهديدات الحوثية لخطوط الملاحة البحرية فى البحر الأحمر، وذلك تواصل حتما ستحكمه الضمانات المتبادلة وإشارات التهدئة المتتالية (ومنها أمريكيا سحب حاملة الطائرات جيرالد فورد من شرق البحر المتوسط) التى ليس لها أن تقنع إقليميا ودوليا دون وقف سريع لإطلاق النار فى غزة. ثالثا، سيتعين، وهنا فرصة لدور مصرى حاسم، تشجيع القوى والأطراف الفلسطينية المختلفة على الانفتاح على حوار وطنى يبلور أولويات مرحلة ما بعد الحرب ويجيب فلسطينيا على تساؤلات حكم غزة، والربط بين مصيرها ومصير الضفة الغربية والقدس الشرقية، وسبل الوصول إلى تسوية سلمية وحل نهائى يستند إلى تقرير المصير والدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 4 يونيو 1967، والحلول الممكنة لدمج حماس والجهاد والفصائل المسلحة الأخرى فى سياق منظمة التحرير كالممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى، وتجديد دماء السلطة الوطنية بانتخابات رئاسية وتشريعية طال انتظارها. وتستطيع مصر من خلال علاقاتها الجيدة مع كافة الأطراف الفلسطينية استضافة جلسات الحوار الوطنى وتشجيع استمرارها وصولا إلى أجندة فلسطينية متوافق عليها. رابعا، على الولاياتالمتحدة وهى الحليف الرئيسى لإسرائيل التشديد بلغة واضحة لا تقبل اللبس على رفضها لكل سيناريوهات التهجير القسرى والتهجير الناعم لسكان غزة ومن بعدهم سكان الضفة الغربية والقدس الشرقية وعلى دعمها لحل سلمى على أساس أمن إسرائيل وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. خلف الأبواب الموصدة، تضغط واشنطن على تل أبيب لإنهاء الحرب فى غزة وتختلف معها حول ترتيبات اليوم التالى وتقترب من الرؤية المصرية بشأن حكم فلسطينى للقطاع وإطار للتفاوض وصولا إلى تسوية سلمية تضمن قيام الدولة الفلسطينية. واليوم، يتعين على واشنطن التشديد على رفض مقولات الجنون التى تصدر عن سياسيى اليمين المتطرف فى إسرائيل الذين يتناولون تهجير الشعب الفلسطينى كسيناريو لما بعد الحرب وهو جريمة مكتملة الأركان سواء كان قسريا أو ناعما. يجب أن يصل الرفض الأمريكى القاطع للتهجير إلى مجرمى اليمين المتطرف، وأن يرتبط الرفض بالتلويح بعقوبات مؤثرة، كتلك التى فرضتها واشنطن على تل أبيب بداية التسعينيات لإجبارها على وفق النشاط الاستيطانى فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة وعلى الذهاب إلى مؤتمر مدريد للسلام فى 1991. خامسا، تستطيع الولاياتالمتحدة ومعها الحلفاء الأوروبيون توجيه رسائل احتواء واضحة فيما خص لبنان وذلك إلى الطرفين، إسرائيل وحزب الله بحيث لا تخرج العمليات العسكرية عن السيطرة وينفتح الطرفان على مفاوضات عبر وسطاء لاستعادة الهدوء وتأمين المدنيين على الجهتين. وينطبق ذات الأمر على احتواء خطر الحوثى فى البحر الأحمر الذى لا يحتاج سوى لفاعلية التحالف البحرى الذى شكلته الولاياتالمتحدة، ومواصلته إسقاط صواريخ ومسيرات حتما ستتراجع أعدادها كلما حيل بينها وبين الوصول إلى أهدافها. فأمن البحر الأحمر وسلامة الملاحة البحرية فى منطقتنا وإمدادات التجارة العالمية لا تحتمل تهديدات جماعة مارقة.