غيّب الموت الدبلوماسي الأمريكي البارز هنري كسينجر، يوم الخميس، عن عمر جاوز المائة عام، احتل ما يزيد عن الستين عاما منهم لمسرح السياسة العالمية، بأدوار متعددة داخل مراكز صنع القرار الأمريكي. وبرز كيسنجر بشكل أكبر مع عهد الرئيس الأمريكي نيكسون وفورد في السبعينيات، والتي تخللها محطات فارقة مع حرب أكتوبر 1973، ولعب بها دورا كبيرا في مسار التفاوض والتسوية بين مصر وإسرائيل؛ إلى جانب مساهمته في التوصل لتسوية لحرب بلاده مع فيتنام، ما مُنح عنه جائزة نوبل للسلام. ومع وفاته، نطل على جانب من فلسفته ورؤيته عن السياسة، والتي ظهرت من خلال مواقفه على امتداد تاريخه. * السلبية الأمريكية بحرب أكتوبر يقول محمود رياض، وزير الخارجية والأمين العام للجامعة العربية الأسبق، في مذكراته: "لقد ذكر لي أحد الأصدقاء أنه سأل هنري كيسنجر بعد تركه لمنصبه عن سبب موقف الولاياتالمتحدة السلبي من القرار الذي اتخذه الرئيس المصري السابق أنور السادات، وكان رد کيسنجر هو أن هذا الموقف الأمريكي السلبي هو الموقف الطبيعي تمامًا في هذه الظروف؛ فالسياسة لا تعرف الأخلاقيات، وليس من مهمة الولاياتالمتحدة أن تتطوع بدفع ثمن شيء تم تقديمه لها مجانًا، ولم يشترط عليها أحد دفعه". * صاحب مدرسة الواقعية يعتبر الأمريكي الألماني الأصل هنري ألفرد كيسنجر، أحد آباء المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية الأمريكية، وتعتبر تجاربه وأفكاره وكتاباته مرجعية للعاملين والباحثين في السياسة الخارجية للولايات المتحدة كما لا يزال، هو بشخصه، مستشاراً رفيع المستوى لدى الإدارة الأمريكية، يٌرجع في القضايا المستعصية، ويمتلك شخصياً 4 شركات استشارية عالمية، تقدم المشورة للجهات السياسية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى، وفقا لما ورد بكتاب "السياسة الخارجية الأمريكية.. بين المحافظية والواقعية الجديدة". * كيف انعكست حياته على تجربته السياسية؟ وجاء بموضع آخر من الكتاب، أنه يمكن القول إن تربية كيسنجر وبنيته الفكرية واهتمامه بالتاريخ الأوروبي، غدت عناصر مجتمعة أبعدته عن التربية الأيديولوجية للمجتمع الأمريكي عموماً إبان الحرب الباردة، كان ينظر من زاوية أخرى ترجع إلى تجربة أوروبا في إعادة بناء نظامها السياسي في مخاض الخروج من القرون الوسطى، ولذلك فقد تميز كيسنجر برؤيته الواقعية وبرز في عصر الصراع الأيديولوجي بين الرأسمالية والشيوعية، والذي سادت فيه أجواء الصراع الثقافي والإعلامي بشكل كبير، وظهرت خلفية الصراع مكونة من مفاهيم ورؤى كونية متضاربة، أكثر مما هي سياسات ومصالح وموازين قوى متعارضة. جاء كيسنجر ليكسر هذا الجليد. * بين العنف والدبلوماسية وواصل الكتاب مزج كيسنجر بين العنف والتهديد به من جهة وبين الدبلوماسية من جهة أخرى، بحيث تنال الدبلوماسية مصداقية واقعية. لقد حافظ على النظام الدولي الذي ظل فيه الاتحاد السوفيتي معترفاً فيه ولكن في دائرة الاحتواء، وبذلك تم نقل الاضطرابات الثورية إلى هامش ساحة صراع القوى الكبرى، أي إلى بلدان العالم الثالث.