يشهد هذا الأسبوع الاجتماعات السنوية للأمم المتحدة فى نيويورك، ويعقد فى إطارها ثلاث قمم بمشاركة قادة الدول الأعضاء: الأولى عن أهداف التنمية المستدامة. والثانية عن العمل المناخى. والثالثة عن تمويل التنمية. وتأتى هذه القمم بعد تجاوز مسافة منتصف الطريق حتى عام 2030 منذ تدشين أهداف التنمية السبعة عشر فى قمة خاصة فى سبتمبر (أيلول) من عام 2015، سبقتها قمة لتمويل التنمية فى شهر يوليو (تموز) وتلتها قمة باريس للمناخ فى ديسمبر (كانون الأول) من نفس العام. وتعكس نتائج منتصف الطريق حالة عالم يعانى من فائض فى الأزمات المتشابكة وعجز متفاقم فى الثقة بين الدول وتدهور فى التعاون الدولى. فلا تكاد تخلو جلسة أو مناقشة فى الأروقة من إشارات عما تسببه التوترات الجيوسياسية بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة، والحرب فى أوكرانيا، وتصاعد التأثير السلبى لتيارات يمينية وشعبوية فى بلدان شتى على العمل الدولى المطلوب للتصدى لأزمات الديون والغذاء والطاقة والمناخ والوقاية من الجوائح. وقد أمكن تقييم 140 هدفا من 169 هدفا فرعيا للتنمية المستدامة فجاءت النتائج مفجعة على المستوى العالم إذ كان 88 فى المائة منها بعيدا عن مسار تحقيق التنمية. فما هو مصير عالم يعلن أهدافا طموحة لانتشال من يعانون من الفقر المدقع وسوء التغذية وتدهور نوعية التعليم والرعاية الصحية وغيرها من أهداف اقتصادية واجتماعية وبيئية فلا ينجز منها إلا 12 فى المائة فقط لتكون على المسار السليم لتحقيقها فى عام 2030؟ بل إن أوضاع الدول الأقل دخلا أسوأ مما كانت عليه فى عام 2000 وفقا لمؤشرات التنمية البشرية التى استعرضها الاقتصاديان بالبنك الدولى إنديرميت جيل وأيهان كووز بما وصفاه بالمأساة التى تتكشف فى البلدان الأكثر فقرا. وتقوض أزمات الديون المنتشرة فى بلدان نامية فرصها فى تمويل النمو وتحقيق التنمية. ووفقا لمعايير سلامة الدين التى يتبعها «البنك الدولى» و«صندوق النقد الدولى» للدول الأقل دخلا والتى يبلغ عددها 67 دولة فأكثر من نصفها يعانى أزمات متفاوتة الحدة قائمة أو مستقبلية لديونها. ويشير مقياس بنك «جى بى مورجان» لارتفاع هوامش اقتراض البلدان النامية والأسواق الناشئة من الأسواق المالية مقارنة بالاقتراض السيادى للولايات المتحدة لذات الفترات الزمنية، باعتبار أن زيادة هذا الهامش عن 1000 نقطة أساس (أى 10 نقاط مئوية) تشير إلى زيادة مخاطر التعثر فى السداد وهو ما تعانى منه حاليا 16 دولة من دول الأسواق الناشئة بما يعادل 23 فى المائة من الدول المشكلة لهذا المقياس. وتشير قاعدة بيانات صندوق النقد الدولى للديون إلى أنه رغم تراجع محدود فى عبء الديون العامة خلال العامين الماضيين فإنه ما زال مرتفعا بما يتجاوز 238 فى المائة من الناتج المحلى العالمى بما يعادل 235 تريليون دولار مع تسارع فى زيادة مديونية البلدان النامية متوسطة ومنخفضة الدخل. وتشير البيانات إلى تراجع اقتراض القطاع الخاص والقطاع العائلى بنحو 12 نقطة مئوية من الناتج المحلى، إلا أن هذا التراجع لم يمحُ أثر الزيادة المفرطة فى الاقتراض إبان جائحة كورونا. كما أنها تعكس استجابة لارتفاع تكلفة الاقتراض تحتم تخفيض المديونية ويظل السؤال معلقا حول أثر هذا الانخفاض على تمويل مشروعات القطاع الخاص ونموها، وكذلك على أثر انخفاض تمويل القطاع العائلى على سوق العقارات التى تعتمد على الاقتراض المصرفى. فليس كل انخفاض فى الانخفاض حميد الأثر خاصة إذا جاء تحت ضغوط من انفلات تكلفة الديون دون توافر بدائل للتمويل من ادخار أو أرباح مجنبة أو مساهمات مباشرة أو تمويل طويل الأجل ميسر الشروط. ولا توجد آليات عالمية ناجعة سريعة الأثر للتعامل مع حالات التعثر فى السداد، فمع تغير هيكل المديونية الخارجية من ديون متوسطة وطويلة الأجل تقرضها مؤسسات دولية وبعض الجهات الحكومية للدول الأعضاء فى «نادى باريس» أصبحت مديونيات الدول النامية مستحقة بشكل متزايد لمقرضى الأسواق المالية التجارية أو لأسواق ناشئة بما لا تجدى الترتيبات التقليدية القديمة معها نفعا. وتظل آلية «مجموعة العشرين» لمعالجة الديون فى حاجة لضم الدول متوسطة الدخل لإطارها كمدينين مع حث دائنى القطاع الخاص من حملة السندات الدولية للديون للانخراط فيها. وتشير دراسة ل«البنك الفيدرالى الأمريكى» فى سانت لويس إلى تفاقم حالات التعثر وعدم السداد إذ عجزت 11 دولة بالفعل عن سداد قروضها فى الأعوام الأخيرة بينما تتعرض أعداد تتراوح بين 48 و 54 دولة من البلدان النامية والأسواق الناشئة لمخاطر عدم السداد، وفقا للتصنيف الائتمانى المستخدم. إلا أن هذا لا يشكل خطورة على الولاياتالمتحدة على عكس ما كان الوضع فى موجة ارتفاع الديون فى الثمانينيات من القرن الماضى. ففى تلك الموجة السابقة تجاوزت مديونية البلدان النامية المستحقة لبنوك أمريكية مرتين ونصف المرة من رءوس أموالها بمخصصات متواضعة فى حينها للتعامل مع العجز عن السداد، أما الوضع الراهن فمختلف تماما لانخفاض نسبة ديون البلدان النامية فى محافظ البنوك الرئيسية. وهذا يفسر عدم انزعاج الولاياتالمتحدة وبلدان متقدمة أخرى من أزمات الديون فى البلدان النامية بالمفهوم المالى الضيق. دون علاج لأزمات الديون المحلقة حاليا، والمحدقة بشرورها مستقبلا بالبلدان النامية والأسواق الناشئة فلن تفلح نفحات مبادرات التمويل المتناثرة فى استنقاذ أهداف التنمية المستدامة بما فى ذلك العمل المناخى من مصير بائس فى عام خط نهايتها فى 2030 ينذر بها واقعها التعيس فى عام منتصف الطريق فى 2023. فهل ستحقق قمم الأمم ما ينشده عموم الناس؟ لسنا بحاجة اليوم إلى مبادرات معدومة الأثر أو خطط دعائية تتبارى فى إظهار محبة كوكب الأرض وساكنيه، بقدر حاجتنا لنظام عالمى عادل وكفء يعكس تطورات الاقتصادات العالمية وتغير موازين القوى. لا يكتسب النظام الدولى الحالى مصداقيته لوجوده منذ عقود فالنظام الراهن لا يمكنه أن يتمسح بالأصالة والعراقة قصرا فهو للهرم والشيخوخة أقرب.