يشهد العالم منذ أكثر من سنتين أحداثا لم يشهدها مجتمعة منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. فقد سببت أزمة «كورونا» أكبر حالة لركود اقتصادى منذ عام 1945، وتبعتها موجة تضخم حادة لا يوجد ما يضاهيها ارتفاعا إلا ما شهدته الاقتصادات الأمريكية والأوروبية فى سبعينيات القرن الماضى. وقبل نشوب أزمتى الركود والتضخم تواترت تحذيرات للدول النامية من أنها تواجه ارتفاعا فى المديونية الخارجية لمستويات حرجة تجعلها أكثر عرضة لتقلبات أسعار الفائدة والصرف الأجنبى وصدمات الارتفاع المفاجئ فى تكاليف الاقتراض، وزيادة احتمالات التعثر فى السداد. ويشكل تراجع تقديرات النمو الاقتصادى العالمى فى هذا العام والعام المقبل أيضا إلى حدود تتراوح بين 2.5 فى المائة و3 فى المائة انخفاضا حادا عما كان عليه معدل النمو فى عام 2021، ويتزامن ذلك مع ارتفاع فى معدلات التضخم عن متوسطاتها العالمية لتبلغ 7.8 فى المائة فى أبريل الماضى، وفقا لتقرير البنك الدولى عن آفاق الاقتصاد العالمى الصادر فى الشهر الماضى، الذى يرصد أيضا ارتفاع معدلات التضخم فى الدول النامية والأسواق الناشئة لتتجاوز 9.4 فى المائة لأول مرة منذ الأزمة المالية العالمية فى 2008، وهذا التزامن بين انخفاض متوالٍ فى معدلات النمو وزيادات فى معدلات التضخم أعلى من متوسطاتها المستهدفة بما سبب حالة من الركود التضخمى، وأدى إلى انخفاض فى متوسطات الدخول الحقيقية عن مستوياتها قبل أزمة «كورونا» فى حوالى نصف عدد البلدان النامية؛ فاقتصاداتها مضارة مرتين؛ مرة بانحسار فرص النمو وزيادة البطالة التى تقلل من فرص التفاوض على أجر أعلى، كما أنها تتضرر من عدم زيادة أجور العاملين بمعدلات تفوق زيادة التضخم. وقد بات لزاما على صانعى السياسة الاقتصادية فى الدول المتقدمة العودة إلى سجلات عقود مضت للتعرف على ما كان من أوجه التعامل مع ارتفاعات التضخم المتتالية فى السبعينيات، وما كان مجديا منها وغير مجدٍ. وفى أحاديث مع مشاركين فى مؤتمر دافوس الذى عُقد فى شهر مايو الماضى تبين أن التضخم الحاد يمثل تحديا عمريا للمديرين التنفيذيين للشركات ومؤسسات الإنتاج فى البلدان المتقدمة، فمن يشغلون هذه المناصب تتراوح أعمارهم بين العقدين الرابع أو الخامس من العمر، أى أنهم كانوا فى مراحل التعليم قبل الجامعى عندما كان التضخم ظاهرة تشغل بال الأسواق، وعليهم أن يتمرسوا التعامل مع هذه المتغيرات وثقافتها. هذا طبعا على عكس الحال فى الدول النامية التى لم تنقطع عن أكثرها تحديات ارتفاع الأسعار تزيد بها معدلات التضخم السنوية أو تحلق ارتفاعا مسببة لموجات غلاء شديدة لا تطيقها دخول عموم الناس. ولكن مما لا شك فيه أن مجرد اجترار الذكريات عن التضخم وكيفية التعامل معه لن يجدى شيئا مع تعقد الأزمات الاقتصادية وتشابكها. مع شدة الأزمات المحتدمة تشابكا من غلاء وركود وديون، تلوح فرص ترتبط بالعمل المناخى فى التصدى الناجع لهذا الثالوث، إذا ما أحسن إدراج جهود التصدى لأزمات المناخ فى السياسات العامة. ويأتى هذا باتباع نهج شامل للتصدى لتغيرات أولى من الاختزال المخل الذى جعل العمل المناخى يجتزئ إجراءات بعينها انحرافا عن حسن إدارة العملية الانتقالية نحو الحياد الكربونى وفق اتفاق باريس وتعهداته الملزمة. أولا، أن سياسات إدارة الطلب بزيادة أسعار الفائدة لن تخفض التضخم بمفردها فى البلدان المتقدمة اقتصاديا، وضررها بالغ على البلدان النامية، كما أوضح جوزيف ستيجليتز الحائز جائزة نوبل فى الاقتصاد، فى مقال مشترك مع الاقتصادى دين بيكر، أن مصدر ارتفاع الأسعار فى الولاياتالمتحدة يرجع إلى صدمات فى جانب العرض مثل الارتفاعات الحادة فى أسعار الطاقة والغذاء والخامات التى انخفض عرضها بفعل «كورونا» وارتباك سلاسل الإمداد وتداعيات حرب أوكرانيا، فزيادات أسعار الفائدة لن تزيد المعروض من المنتجات، بل على العكس ستجعل تكلفة الاستثمار أكثر ارتفاعا وتعوق جهود تنشيط جانب العرض. وفى مقال لاقتصادى مرموق حائز أيضا جائزة نوبل فى الاقتصاد، وهو مايكل سبنس، يحذر من مغبة الرفع المتزايد لأسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الرئيسية بدفعها للاقتصاد العالمى تجاه ركود أعمق. وفيما يتجاوز الأثر السلبى للأزمة الأوكرانية، يوضح سبنس أن هناك معوقات فى جانب العرض وإنتاجية العمل والأجور النسبية تحتاج لعلاجات لن يجدى رفع أسعار الفائدة معها نفعا. كما أن هناك تحديات جيوسياسية ورغبات فى إعادة تشكيل سلاسل الإمداد بدوافع تحقيق أمن الحصول على منتجات أساسية بتوطين عمليات الإنتاج أو من خلال التعاقدات مع مصادر أكثر تنوعا للطاقة وأقل تركزا من حيث المخاطر، ومرة أخرى لن تحقق ارتفاعات أسعار الفائدة أى تحسن فى وفرة المعروض من المنتجات التى ارتفعت أسعارها، بل ستعيد تسعير الأصول المالية والعقارية والعملات. أما عن آثارها على البلدان النامية فستزيد من اضطرابات أسواق النقد الأجنبى والتدفقات المالية مع مزيد من التعثر فى سداد الديون الخارجية. ثانيا، دفع جانب العرض بزيادة الإنتاج والإنتاجية فى قطاعات الطاقة والغذاء وإدارة المياه من خلال الاستثمار. جانب كبير من التضخم يرجع لزيادة أسعار الطاقة والمواد الغذائية التى زادتها سوءا الحرب الأوكرانية. فى الأجل القصير تأتى إجراءات انفعالية كرد فعل كاستخدام مولدات الكهرباء المستخدمة للفحم فى أوروبا، ولجوء أكثر من 30 دولة لإجراءات حمائية ومانعة لتصدير منتجاتها الزراعية. ولكن فى الوقت ذاته تتولد دوافع للاستثمار فى الطاقة المتجددة وتطوير القطاع الزراعى ومنظومة الإنتاج الغذائى وكفاءة استخدام المياه بالتوافق مع إجراءات التخفيف والتكيف المناخى مع التوسع فى استخدام مستحدثات التحول الرقمى والذكاء الصناعى، وما يتطلبه ذلك كله من استثمارات جديدة. ولعل أهم ما أسفرت عنه اجتماعات مجموعة السبع هو تعهدها فى البيان الصادر عنها الشهر الماضى باستثمار 600 مليار دولار فى مشروعات فى البلدان النامية خلال السنوات الخمس المقبلة فى مجالات العمل المناخى والصحة العامة والبنية الرقمية والمعلوماتية والعدالة بين الجنسين. وهذه المجالات تأتى فى إطار اتفاق باريس وأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر؛ وهى تتطلب تعاونا فنيا وتكنولوجيا مع الدول النامية لا يقل أهمية عن التمويلات الموعودة، الذى أكد الرئيس الأمريكى جو بايدن أنها ليست منحا أو معونات، لكنها استثمارات. بافتراض تدفق هذا التمويل فإن الفجوة التمويلية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ستظل فى حاجة إلى المزيد لتجسيرها، إذ تصل تقديراتها إلى 4.2 تريليون دولار سنويا، وفقا لتقارير منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية. ومن خلال الاستثمارات الموجهة للدول النامية ذات النفع المتبادل، يمكن التعامل مع تحديات الركود بدفع نمو قطاعات الإنتاج وتيسير الحصول على طاقة نظيفة والتعامل مع أزمة الغذاء وأسعاره التى استعرت، خصوصا بعد الأزمة الأوكرانية. ثالثا، تخفيض الديون من خلال مبادلتها بالاستثمار فى العمل المناخى، باعتبار أن درء مفسدة الديون المتفاقمة يقدم على جلب المنح والهبات، فهناك ضرورة تحتم إعادة النظر فى المديونية الدولية، وأوجه الخلل فيها، ومنع انتشار أزمات التعثر فى السداد والإعسار، وما يرتبط بها من مشكلات ويترتب عليها من تداعيات واختلالات اقتصادية فى البلدان النامية، ولنا فى الموجات الثلاث للديون، التى انتهت كل واحدة منها بأزمة كبرى، عظات. وباعتبار أننا لا نشهد تدفقا ماليا يذكر للعمل المناخى رغم التعهدات، فمن مجالات العمل الممكن للتعاون الدولى تطوير وسائل جديدة من مبادلة الديون ويكون بمقتضاها استفادة الدولة المدينة بتخفيض ديونها الخارجية المستحقة، سواء كانت لمدينين رسميين أو تجاريين، من خلال تنفيذ مشروعات، كما فعلت دولتا بليز وسيشيلز، وإن كان من الأفضل أن يكون ذلك مقابل إجراءات تنفذها الدولة المعنية بالتوافق مع تعهداتها وفق اتفاق باريس، سواء فى مجالات التخفيف أو التكيف بمنظومة محددة فنيا وزمنيا؛ وهو ما سأقوم بتوضيحه بتفصيل وأمثلة فى مقال مقبل. ولحسن التعامل مع الأزمات الراهنة يظهر بجلاء أن الاكتفاء بافتراضات سخية عن تماثل الأزمات الراهنة، أو تشابهها، مع أزمات سابقة لن يضعها على مسار حل سحرى. كما أن لوم مصدر الأزمة بكونه من مسببات خارجية أو من مخلفات عهود بائدة، لن يفيد إلا لوقت وجيز يتلقى خلاله مدير الأزمة كلمات للتضامن أو التشجيع لا ينبغى أن تشغله عن مهمته الأساسية فى التصدى للأزمة، فشأنه بعدها لن يكون مثلما كان قبلها بحال. وأفضل ما ينفع مما سبق من دروس الأزمات الفائتة أنها جميعا إلى انقضاء، وهو ما قد يطمئن، ولكنها لا تنتهى تلقائيا ولكن بما يبذل فى مواجهتها من جهد منظم بفريق محترف يقود مؤسسات ذات كفاءة بسياسات واضحة الرؤية. ومن دروس التعامل مع الأزمات أن لها تكلفة تزيد بإهمال التصدى الفورى لها، وأنها ليست عادلة فى توزيع أعبائها، وهو ما ينبغى إدراجه فى تصميم برامج التصدى لها، فكثير من أنواع الدواء الموصوف قد يكون أشد من الأزمة شرا. وسيتبين بعد نهاية الأزمة أنها، ككثير من سابقاتها، كان من الممكن التوقى من شرورها أو على الأقل من أغلبها. وهذا هو الدرس الأكبر من دروس تاريخ الأزمات بلا منازع، إذ إننا لا نتعلم منه شيئا، بما يجعل الأزمات تتكرر بملل مزعج فى كثير من مسبباتها.