أعماله جسدت قيمة مضافة لأبجديات العمل الروائى ومصدر إلهام للأجيال المتعاقبة سيد محمود: كانت خفة دمه العنوان إلى قلبه النابض بالحياة رحيل صادم وفاجعة كبرى، حلت على الوسط الثقافى والأدبى، برحيل الكاتب والروائى الكبير حمدى أبو جليل، والذى أجمع الكثيرون على مقدار ما تمتع به من سمات إبداعية متفردة، يكاد لا يوازيها إلا قدر هائل من السمات الإنسانية التى شهد بها الجميع لأبو جليل، حيث حاز الكاتب الراحل على احترام الجميع تقديرا لمسيرته الإبداعية التى أكدوا أنها لو امتدت لأضافت المزيد من الإبداعات للمكتبة الأدبية المصرية والعربية. تسابق الكثيرون من رموز الإبداع الأدبى والروائى والمثقفون لنعى حمدى أبو جليل، حيث نعت دار الشروق الروائى الراحل وشاطرت أسرته ومحبيه الأحزان على فراقه بعد حياة حافلة ومسيرة أدبية مضيئة، كما نعت الدكتورة نيفين الكيلانى، وزيرة الثقافة، الروائى الكبير «حمدى أبو جليل»، الذى وافته المنية عن عمر ناهز ال56، وقالت: «فقدت الساحة الأدبية اليوم أحد أبنائها المتميزين، والذى جسدت أعماله قيمة مضافة لأبجديات العمل الروائى، وستظل أعماله مصدر إلهام لأجيال متعاقبة». محطة الانطلاق ولد حمدى أبو جليّل، فى الفيوم سنة 1967، وكان كتابه الأول عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة التى نشرت فى عام 1997 تحت عنوان «أسراب النمل»، أما مجموعته الثانية «أشياء مطوية بعناية فائقة» والتى صدرت فى عام 2000 وفازت بالعديد من الجوائز الأدبية، وقد شهد العام الماضى 2022 إصدار دار الشروق للكاتب الراحل، روايتا «لصوص متقاعدون» و«الفاعل» صدر له عدة مؤلفات من بينها: «طى الخيام»، و«الأيام العظيمة البلهاء»، و«نحن ضحايا عك»، و«قيام وانهيار الصاد شين»، واتسم أسلوبه باللغة المغايرة وإدماج الخبرات الحياتية الممزوجة بإحكام فى نصوص لم تكن تتوقف عن إثارة دهشة القارئ، وامتلك أبو جليل الجرأة الأدبية التى تمكنه من اقتحام عوالم خصبة، متعمقا فى فهم شخصيات وأبطال تتصاعد الأحداث ما بينهم لتمنح القارئ وجبة أدبية تتكامل فيها العديد من العناصر. وقد برع حمدى أبو جليل فى التعبير عن عالم جاءت معطياته من أحداث وعلاقات وشخوص انتموا إلى عالم الهدم والترميم والرمل والطوب وربطه بعالم روائى يندر مصادفته ضمن نصوص جاءت بمثابة مزيج مدهش بين الواقعية الشديدة والغرائبية الملموسة فى سرد الأحداث. وفى حوار مطول للشروق مع الكاتب الراحل أواخر العام الماضى، قد ذكر أنه لا يتعمد السخرية فى أعماله وإنما يستخدمها لفهم المتناقضات، مضيفا أن الأزمات الحقيقية تصنع الكتّاب، وأن المعاناة تجعلهم أقرب للكتابة الروائية، وأضاف: أصنف نفسى بأننى كاتب «شبه عدمى» ولكنى شعرت بمسئولية كبيرة أننى لابد أن أطوع تراث اللغة البدوية العظيم ما يمكن استخدامه فى الرواية، وحتى فى استخدامى للشعر البدوى أحاول أن أضعه بشكل لا يؤثر على الفهم العام للسياق بأكمله. حزن عميق عبر الكاتب والصحفى هشام أصلان عن عميق حزنه لرحيل الكاتب والروائى حمدى أبو جليل، وقال للشروق: عرفت الكاتب الراحل فى وقت مبكر، كان يعمل مع والدى وقريب منه للغاية، وكانت تربطهما علاقة عمل مشترك فى سلسلة آفاق عربية، وفى إحدى الفترات أصبح كأحد أفراد العائلة، وشهدنا معا حالة من التقارب الأسرى الكبيرة، ولكن وقتها لم يكن عندى فكرة كاملة عنه من الناحية الأدبية حيث كان فى بداياته. وأضاف أصلان: مرت السنوات وبدأت العمل الصحفى والأدبى، واتخذت صداقتى بحمدى منحى جديد وسياق مختلف وبعيد عن السياق الأسرى الذى ظل كجذر قوى لهذه الصداقة. وكنا نلتقى دائما على مساحة من السخرية الشديدة وحالات هيستيرية من الضحك بسبب خفة الظل الرهيبة التى كانت تميزه، قائلا: كنت أحيانا اختلف مع طريقته فى علاج بعض الأمور فى الحياة العامة، ولكنه يظل فى رأيى أحد أهم كتاب جيله، وبالنسبة إلى أقرانه فإنه يربط ويصل ما بين جيل التسعينيات والجيل الذى تلاها. استطرد بعدها: أبو جليل كاتب مهم لعدة أسباب على رأسها، أنه يتفرد فى تصوره للكتابة، وتصوره للسؤال الإنسانى، ولم يشبه غير نفسه، ويملك منظورا قويا حول كيف تتناول عالمك الأدبى الخاص فيما يعد تصوره عن فن الكتابة القصصية والروائية شديد الأصالة، على سبيل المثال تلقى كثيرون رواية «الفاعل» باعتبارها شيئا من السيرة الذاتية، ذلك أن حياة بطل الرواية واسمه تتطابق مع حياة الكاتب وما إلى ذلك، بينما كان يصر هو إنها رواية وليست سيرة ذاتية من زاوية نظره لفن الرواية، وعطفا على صدقه فى قناعاته تعامل الجميع مع الفاعل باعتبارها رواية. وأوضح: التجريب عند أبو جليل لم يكن غاية، وإنما امتلك بشأنه مفهوما يتعلق بأنك تضطر لتجريب شكل جديد، عندما تعجز عن الوفاء والإخلاص للأشكال الأدبية الأقدم، فكانت مساعيه على الدوام فى هذا المسار، وأرى أن الأصالة البالغة فى أطروحات حمدى أبو جليل هى السبب الأول التى وضعته فى مكانة مهمة بين الأدباء المصريين والعرب بالرغم من صغر سنة وقت تحقق له ذلك. وأردف أصلان: بالعودة لكلمته التى ألقاها فى حفل تسلم جائزة نجيب محفوظ بالعام 2009، سنجده يشرح تصوراته الأدبية الأصيلة ببساطة ووضوح، كما كانت علاقته بالسخرية مركبة حد السخرية من ذاته، مع ذلك لم يكن عدميا. واختتم أصلان: الفقد الذى روعنا به فى رحيل أبو جليل، هو فقدان حقيقى، فعلى المستوى الإنسانى قد أفجعنا رحيله، ولم يكن ذلك؛ لأنه رحل فقط بشكل مفاجئ، وإنما لطبيعة حضوره فى الحياة العامة الذى كان طاغيا، وعلى المستوى الفنى والأدبى خسارتنا فيه كبيرة للغاية، ذلك أنه رحل فى ذروة عطاءه الأدبى، وكان لديه الكثير مما يمكن أن يقدمه للأدب المصرى والعربى. صوت الصدق وقال الكاتب والروائى عمرو العادلى، إن الراحل حمدى أبو جليل يمثل صوت الصدق بالنسبة لجيلى، فهو إنسان طبيعى بمعنى الكلمة، وفقده له مرارة عميقة وخسارة كبيرة، حرصت على قراءة حمدى من البدايات، منذ روايته الفذة لصوص متقاعدون، لم أكن أعرفه فى البداية معرفة شخصية، لكننى سعيت إلى ذلك. أضاف العادلى للشروق: فى فبراير 2008، ذهبت إلى دار ميريت مخصوص لأشترى روايته الجديدة وقتها «الفاعل» قابلته صدفة هناك، تكلمنا عن روايته السابقة «لصوص متقاعدون» الفاعل كان سعرها 8 جنيهات، لكنه وقعها لى وصمم ألا أدفع ال 8 جنيهات، حينها قال الأستاذ محمد هاشم له «نسخك قربت تخلص يا حمدى» فرد قال له «ما تخلص، اطبع تانى، أنت مش سامع الراجل بيقول جاى مخصوص علشان الرواية». وواصل: كانت آخر مرة قابلت أبو جليل فى احتفالية دار الشروق فى فندق ماريوت فى يناير 2023، ليلتها كل ما يقترب أحد ويسلم علينا يقول لى «دول دبلوماسيين فى بعض مالناش دعوة بيهم، خليك معايا هنا، أنا بحس إنك زى حلاتى مالكش برضه فى الدبلوماسيين»، دائما كانت لغته محفزة على الضحك، وكانت له مقولة مشهورة «الرواية اللى متضحكش القارئ متبقاش أصيلة» ليلتها دار حوارنا كله حوال آنى إرنو، كان معجبًا جدا بمشروعها الأدبى، بكتبها صغيرة الحجم التى استطاعت أن تقتنص بها نوبل، أهم جائزة أدبية فى العالم، كان يرى إن هذا هو جزاء صدقها الفنى، وإن كل ما كتبته كان سيرة ذاتية وليس كتابة عن تجارب أشخاص آخرين، وهذا كان متوافقا جدا مع مشروع حمدى نفسه، لأنه أيضا كان يكتب نفسه ويرى من خلالها العالم. اختتم العادلى: كان حمدى أبو جليل يكتب ما يعتمل فى نفسه الحقيقية، لا يؤلف بل يكتب نفسه، وهذا مبلغ الصدق لكل كاتب، ومن الصعب علىَّ أن أتصور كتابة كلمة عن حمدى بعد رحيله، فأنا لسبب أو لآخر كنت أتصور أنه سيعيش حتى يبلغ مائة عام، لكنها إرادة الله، اسأل الله أن يرحمه ويعطيه قدر صدقه وإنسانيته. نقاء رغم الصخب كما عبر الكاتب الصحفى والناقد سيد محمود عن عميق حزنه لرحيل الكاتب والروائى حمدى أبو جليل حيث قال: لولا إنى رأيت نعى حمدى أبو جليل على صفحة ابنته هالة ما كنت لأصدق أبدا نبأ رحيله، كنت أحسب أنه سيظل كما عرفته صاخبا ونقيا، أحببت حمدى منذ ان تعرفت عليه ونحن فى الجامعة، جاء إلينا مع الكاتب أشرف عبدالشافى ومنذ 30 عاما ظل قريبا من القلب. وأضاف محمود فى مجموعة من التدوينات عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك: رغم خشونة أبو جليل البادية، إلا أنه كان طيبا هشا وصاحب موهبة فذة فى كتابة تشبهه تماما، لصيقة بالذات وتعبر أيضا عن الجماعة، كانت خفة دمه العنوان إلى قلبه النابض بالحياة، اتيحت لنا الكثير من الأوقات الرايقة فى صحبة ابراهيم اصلان راعينا الأكبر، وكتبت عن كل أعماله الجميلة، وقدمت أحدث طبعاتها العام الماضى. واستطرد محمود: بقينا على مودة طوال عمر كامل، لم أعرف فى حياتى من هو أكثر قدرة على السخرية من ذاته مثلما كان حمدى الغاضب كموجة والرقيق كوردة، فهمت اليوم فقط لماذا كانت كل صورك الاخيرة فى ظلال الشجر وأحاديثك كلها عن الموسيقى، الوداع يا صديقى، إنها كما وصفتها (الأيام العظيمة البلهاء)، ستفتقدك الحياة التى أحببتها كما ينبغى لعاشق والعزاء لنا فى موهبة كبيرة وروح مرحة لم تهدأ أبدا.