«وجبة متكاملة» لعزت القمحاوى تحتفى بقيم الجمال والحرية والفكر فكرة براقة وحبكة مدهشة، تخلق العلاقة ما بين «الكتابة والطهى»، تفتش عن القواسم المشتركة بينهما عبر رؤية إبداعية، يتفرد بها الكاتب الكبير عزت القمحاوى فى كتابه «الطاهى يقتل.. الكاتب ينتحر»، حيث يقدم رؤية استثنائية قادرة على جذب انتباه القارئ وتوريطه فى النص منذ الوهلة الأولى. بأسلوب تتصاعد من خلاله خطوط التشويق بالنسبة للقارئ، يخلق القمحاوى علاقة غير تقليدية بين الطهى والكتابة باعتبارهما من الفنون التى يجمع بينهما تاريخ مُشترك، منذ بدء الخليقة، حيث يتسرب إلى القارئ يقينا فوريا بأن كل من الكتابة والطهى يقفان على أرضية مشتركة من المهارة المحببة للنفس، والقدرة على إمتاع النفس البشرية وإفادتها فى الوقت ذاته. يعكس غلاب الكتاب مجموعة من الرسائل التى يبثها القمحاوى، حيث يكتب: أتأمل مهارات البناء فى الطبق والكتاب، وأقارن نتائج «العجن واللت» فى المخبوز والمكتوب، وأحاول كشف الغش الذى يمارسه بعض الكُتَّاب والطهاة بتصعيد الدسم والملح والحار، واحتفى بأعمال المهرة من الأدباء: نجيب محفوظ، مارسيل بروست وبورخيس، ومن الطهاة: إميريل لاجاسى، جيمى أوليفر، ونادية حسين. ويعود دائمًا إلى مطبخ العظمة «ألف ليلة وليلة». كعادة الكاتب عزت القمحاوى، فإنه يملك مجموعة من الأدوات المخصصة لجذبك القارئ من الجملة الأولى، حيث نص متماسك ومترابط ويحمل قدرا هائلا من التعمق فى الذات البشرية، ولكن بأكثر الطرق التعبيرية سلاسة، وبأكثر الأساليب بساطة وعدم تكلف، مدعوما بأفكار تترك الواقع أحيانا لتلامس الخيال الغرائبى فى المنظور الذى يتبناه الكاتب. حالة الإمتاع الشديدة التى يترك الكتاب معها كل من يقرأ فصوله بين دفتيه، لا تناقض أبدا عدد من الأسئلة التى تراوحت حول الخيارات الإبداعية فى كتابة الرواية، عن ماهية القالب اللغوى المناسب للعمل الروائى، خيارات المبدعين فى إضافة «البهارات» إلى نصوصهم، وكيفية جعل الشكل النهائى ل«طبخة النص» بشكل جذاب، مراعاة التذويق أو الجانب الجمالى دون فقدان المضمون الأصيل. يحافظ القمحاوى على كتابة حية يقتسم من خلالها عددا كبيرا من الأفكار الجذابة حول علاقة الكتابة بالطبخ مع قارئ شغوف، بعد أن عاشت فى داخله وقتًا طويلا؛ وهو ما ترصده مقدمة كتابه حيث يقول: «بسبب كل التشابهات بين الحكاية والطبخ اعتقدت دائمًا بأن الكتابة عمل أنثوى، وأن الكاتب الرجل بحاجة إلى وقت يقضيه فى المطبخ لتأنيث روحه وتعويد حواسه على الرهافة، ومعرفة الاعتدال والقصد فى طبخته الأدبية: القدر المناسب من المكونات الأساسية، كمية البهارات، أنواعها، وأوقات إضافتها، كذلك يساعده الطبخ فى تربية حدسه على معرفة لحظة النضج؛ فلا يخرج عمله نيئًا أو شائطًا. يمضى بالقول: أتصور أن الوقت الذى ينفقه الكاتب فى المطبخ ضرورى لبناء مهاراته فى الكتابة، فهو وقت للتأمل وتفريغ التوتر والخوف من الكتابة ومن القارئ؛ فبالرغم من أن الكاتب يتوجه إلى محبيه بالأساس، إلا أنه لا يستطيع أن يتجاهل القارئ العدو، الذى سيسعى إلى الكتاب بحماسة تفوق حماسة القارئ المحب. نصوص الكتاب تحتفى بقيمة حرية الفكر والمشاعر، واحترام الحواس ويحتفى بالدقة والخفة ويسعى إلى صحبة دافئة مع القارئ وشراكة كاملة معه فى اكتشاف المعنى، ويعد هذا الكتاب هو المحطة الأحدث فى مشوار النصوص غير الروائية للكاتب التى بدأها ب «الأيك» وتواصلت فى «كتاب الغواية» و«ذهب وزجاج» و«العار من الضفتين» و«غرفة المسافرين». ويكشف غلاف الكتاب عن الأجواء الساحرة التى بانتظار القارئ فى عالم القمحاوى، حيث نعاين: لا تكفى المهارة وحدها لكتابة رواية أو طهو طبق جيد، لابد من النار؛ ولو لهب شمعة فى قلب الكاتب والطاهى وفى هذا الكتاب يستعرض عزت القمحاوى شغفه بالكتابة والطهو حيث يعتقد أنهما توءم، وكانا فى البدء عملًا أنثويًّا، لهذا يظل الكاتب الرجل بحاجة إلى تأنيث روحه؛ إلى تعلم التواضع والصبر والحيلة عبر الطبخ. وعلى مدار نصوص القمحاوى فى «الطاهى يقتل.. الكاتب ينتحر» نجد مجموعة من الملاحظات شديدة الذكاء والخصوصية فى الوقت ذاته، حول التفتيش عن الرابط بين الطعام والكتابة، وأوجه الالتقاء بينهما، حيث يجد القارئ نفسه مدعوا بشكل سريع إلى وجبة إبداعية كاملة، تتوافر فيها كافة العناصر المتعلقة بالحكايات عن الطعام والسرد الشيق الممتع عن الرواية. ويصبح كتاب القمحاوى نفسه أشبه ما يكون ب«وجبة دسمة» لكنها لا تسبب التخمة أبدا للقارئ، حيث يحافظ على الإيقاع السريع فى استعراض الأفكار، واستهلال الفصول بحكاية عن الطعام تتطور إلى رؤية إبداعية خاصة عن الأدب والرواية أو العكس من ذلك. عزت القمحاوى كاتب وقاص وروائى، صدرت له 7 روايات: «مدينة اللذة» 1997، «غرفة ترى النيل» 2004، «الحارس» 2008، «بيت الديب» 2010، «البحر خلف الستائر» 2013، «يكفى أننا معًا» 2017، «ما رآه سامى يعقوب» 2019، و3 مجموعات قصصية «حدث فى بلاد التراب والطين» 1992، «مواقيت البهجة» 2000، «السماء على نحو وشيك» 2016، بالإضافة إلى «الأيك فى المباهج والأحزان» (نصوص) 2002، «كتاب الغواية» (رسائل) 2009، «ذهب وزجاج» (بورتريهات) 2011، «العار من الضفتين» (ريبورتاج)، 2011، «غرفة المسافرين» 2020، وفاز «القمحاوى» بجائزة نجيب محفوظ لعام 2012 عن رواية «بيت الديب»، ووصلت روايته «يكفى أننا معًا» إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد 2018.