تساءل المتابعون لمسلسل «سِتُّهُم» ما إذا كان الاسم الغريب يمثِّل لَقَبا استحقَّته بطلة المسلسل لكونها بطلة حقيقية، خاضَت الأهوال لتستحق لَقَبَها اللقب الذى كان اسمها فى نفس الوقت، ليصبح اسما على مسمَّى. بدا الاسم غريبا بين الأسماء التى صار الناس يختارونها للمواليد الجُدُد، والتى تأثَّرت كثيرا بالموضة الجديدة، وتلك الأسماء انتشرت فى الريف والحَضَر مثل (مهند) و(بسمَلة) و(مكة) و(تميم) و(تيم) و(يارا) و(تلا) .. إلخ. وكلها أسماء مستوردة من المسلسلات التركية أو من العواصم الخليجية التى هاجَر المصريون إليها للبحث عن فرصة عمل. • • • يُمعِن الأهل فى اختيار تلك الأسماء الغريبة التى تُزيد غرابتها من جاذبيتها فى سِباق «الاغتراب» الذى صار حريصا على الابتعاد عن السياق التقليدى للأسماء المتداولة فى ريف مصر وحَضَرها. ولم يعُد غريبا أن يتساءل معظمنا عن معنى الاسم الذى تُطلِقه الأسرة على المولود الجديد. فدعنا نتوقف قليلا لنتأمل ما حدث. فنحن لم نتوقف كثيرا للبحث عن الأسباب التى تدعو أهلنا إلى إطلاق هذا الاسم أو ذاك على المواليد الجُدُد. فمَن من الذين يهرعون إلى غُرَف الولادة للتهنئة، يمكنه أن ينتبه إلى وجود ذلك «المراقب الخفى القابع» فى رُكْن الغرفة ليمارس سلطته بطريقته البسيطة المعقدة، فى نفس الوقت، بتوجيه الجمع العائلى لاختيار اسم معين بالذات للمولود الجديد؟ فما أن تهتُف القابلة فى أُذُن الأم بأنها رُزِقَت بوَلَد حتى تهتُف بأغانى الفولكلور الشعبى القائلة: «لما قالوا ده ولد إتْشَدّ ظهرى وإتْسَنَد.. وجابولى البيض مقشَّر وعليه السَمْن سايح». فهى تعرف أن الوليد الذكر سيصبح رجلا فى مجتمع ذكورى النزعة تعلو وترتفع فيه مكانة الرجال. وبالتالى تنسحب تلك المكانة السامية على الوالدة التى تنادى باسم (أم حسن) أو (أم على) أو (أم أحمد) ... إلخ. وتشعر الوالدة ساعتها بالعَداء لمن يناديها باسمها الحقيقى مجردا. لكونه قد تجاهل المكانة التى حصلت عليها بوضعها للوَلَد. أما إذا كانت الوالدة «قليلة البخت» فولدت أنثى فإنها تبدأ فى التعبير عن الحسرة والحزن فتغنى: «ولما قالوا دى بنية.. هدُّوا رُكْن الدار عَليّا.. وجابولى البيض بقشره.. وبدال السَمْن ميَّة». حيث تسجل الأنشودة الشعبية الحزينة كيف تدنَّت المكانة الاجتماعية للوالدة، ففقدت التعاطف العائلى الواجب معها فى حالتها الصحية الواهنة. وقد عانت من الازدراء والشماتة اللتين تمارسهما عائلة الزوج والأعداء من الجيران. وهنا يتم تسمية المولودة اسم (جارية) و(وصيفة) و(غزالة) . وكلّها أسماء تشير لقيمة متدنية اجتماعيا. وهذا فضلا عن أسماء (فاطمة) و(خديجة) و(نبوية) استلهاما للمعانى الدينية والبَرَكة. فإذا استمرّ الناس فى السؤال من أين إذا جاء اسم (سِتُّهُم) هذا، والذى يتكوَّن من مقطعين هما «سِتّ» وضمير الغائب «هُم» والمقصود بهذا الاسم بوضوح أنها تلك الفتاة التى تتسيّد على الآخرين من الرجال قبل النساء، أى على مجتمعها بأكمله. فكيف يحدث هذا التناقض مع كل ما سَبَق أن ذكرناه؟ وهنا، سيكون علينا أن نستعرض الجانب المضاد من الصورة التى سبق لنا ذكرها بشأن تدنّى المكانة الاجتماعية للنساء فى المجتمع المصرى فى الريف والحَضَر أيضا. ونعنى بذلك تلك الحالة الناجمة عن الرغبة العارمة فى إشهار سلاح المقاومة النفسية والاجتماعية المضادة للقَهْر الذكورى السائد فى مجتمع السيطرة الرجالية الذى استعرضناه. • • • هنا تحرِص الثقافة النسائية الكامنة على تأكيد حقَّها الإنسانى وذاتها المناهضة للظلم الاجتماعى الذى تعانيه النساء. ويتم ذلك فى شكل إعلان حالة من الابتهاج العارم بقدوم المولودة البنت. فتبدأ الوالدة فى الغناء وهى تدلل الصغيرة: «لما قالوا دى بنية قلت يا ليلة هنية.. تعجن لى وتخبز لى وتملالى البيت مَيّة». وتعدِّد هذه الأغنية مجموع الأدوار الاجتماعية التى تمارسها البِنت فى بيت أهلها، حيث تتمتع الأم بمن ستساعدها فى القيام بالأعباء المنزلية التقليدية كإحضار المياه من البئر والقيام بعجن الخبز وخبزه فى الفرن وغسل الثياب وكلها مهام صعبة ومجهِدة كانت تقوم بها الوالدة بمفردها. ولا تكتفى الأم بالغناء والترحيب بالفتاة وإنما تتزعم حركة «المقاومة الاجتماعية» مع من يساندونها من أقاربها، فيطلقون على الوليدة اسما فخما يعوضها عن تدنى المكانة، فتنتشر أسماء ذات دلالة عميقة المعنى مثل «كيداهم» أى تلك التى تثير عند أعداء أسرتها مشاعر الغيظ والهزيمة والقهر والغيرة عندما يتفاعلون معها اجتماعيا. أما اسم (زيناهم) فيعنى أن المولودة تتمتع بالجمال والفتنة اللتين يؤهلانها لكى تكون تاجا على رأس الجميع، رجال المجتمع قبل نسائه وفى نفس السياق يأتى اسم (حلاوتهم) وهى تلك التى لا يضاهيها أحد فى الفتنة. بالإضافة إلى أسماء (أم الهنا) و(أم السعد) و(أم الرجال). وذلك بهدف التأكيد على أن الرجال هم فى النهاية مجرد نتاج بيولوجى للنساء اللاتى تمنحهم الحياة. ويصل الأمر إلى مزيدٍ من الفخر بالبنت، فتسمَّى (سِتّ الدار) و(سِتّ أبوها) و(سِتّ الناس) ليصبح الاسم سلاحا تشهِره صاحبته وأسرتها ومن يحبونها فى وجه الشامتين المتآمرين عليها وعلى والدتها. ولكى لا يجرؤ هؤلاء على التفكير فى النيل من صاحبة لَقَب (سِتّ أبيها) الذى يحكم العائلة بكاملها. لم يتوقف هذا الموقف على الريف فقط، وإنما كان يسود الحضَر أيضا. ويكفى أن نتذكَّر وضع المرأة فى ثُلاثية (نجيب محفوظ) لنلاحظ التشابه الواضح فى أوضاع النساء فى ريف مصر وحضرها، الأمر الذى دعا شاعرنا الفذّ (صلاح جاهين) إلى تسجيل موقفه الفكرى الداعم للمرأة عندما استقبَل ميلاد ابنته (أمينة) بالفرَح العارم والبهجة المؤكَّدة فى أغنيته التى تألقت فى أدائها سندريلا الشاشة المصرية «البنات ألطف الكائنات» وفيها يهتف بآرائه التقدمية فى إعلان المساواة بين الجنسين: «البنت زىّ الولد... ماهيش كمالة عدد.. فى الاحتمال والجَلَد.. مذكورة فى المعجزات». ويحثّ البنات على السعادة والثقة بالنفس والقوة بقوله: «قولوا يا بختنا.. يا بختنا.. يا بختنا.. فرحانين إننا اتولدنا بنات». • • • الحقيقة أنك استطعتِ يا عزيزتى (ستهم) أن تدفعينى إلى غرفة «الأضابير» لأستخرج من الأرشيف الاجتماعى بعضا من كنوز التاريخ الكامنة فى أسامينا وألقابنا، ولا أظن أننى سأكتفى بما حصلت عليه. وسيكون لنا موضوعات كثيرة تكشف المزيد من المجهول لنا فى ذلك الموضوع الهام والطريف أيضا فى تاريخ أسامينا.