يمنح خيال الروائى، الحياة والحيوية المطلوبة لإبداع نص متميز، وحينما يتم تطويع ذلك بمخيلة مؤرخ من طراز رفيع، تتدفق من بين ثنايا كلماته، قدر هائل من المعلومات التاريخية، التى يسهل استيعابها وتشربها، سنكون حينها أمام رواية «سلام على إبراهيم»، أحدث مؤلفات أستاذ التاريخ المعاصر، محمد عفيفى، الصادرة مؤخرا عن دار الشروق. رحلة ثرية يصطحب فيها الدكتور محمد عفيفى القارئ، للتعرف على حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية فى مصر، بكل ما حملته من معطيات سيكون لها أثر بالغ فى تشكيل مصير المصريين لعقود ممتدة، حيث تنطلق الأحداث من اقتراب المئوية الأولى لرحيل إبراهيم باشا، لتتبلور خطة فى عهد الملك فاروق، لاستغلال هذا الحدث لإعادة الصورة الذهنية الإيجابية عن الملكية، ليجد القارئ نفسه أمام وجبة أدبية غنية بالمعلومات التاريخية، والأحاسيس والمشاعر التى تم سردها بتقنية «التخييل التاريخى». يتجسد «التخييل التاريخى» فى تلك الرواية التى يلعب فيها الخيال دورا كبيرا، حيث نجده فى هيئة مجموعة من الافتراضات المتخيلة والسيناريوهات الافتراضية التى تقوم فى كل الأحوال على حقيقة ما، تضمن اللعب على مساحة المسكوت عنه فى التاريخ، بشكل أدبى روائى بحت. تقع الرواية فى السنوات الثلاث التى أعقبت نهاية الحرب، البداية فى مطلع عام 1946، والنهاية مع الختام الدامى لعام 1948، ومن خلال ما يدور بين شخوصها، وجُلُّهم شخصيات تاريخية حقيقية، نكتشف بعض ما كان يدور فى كواليس القصر الملكى حينئذ. باستخدام مجموعة من الشخصيات المرسومة بعناية، والتفاعل المثير فى الأحداث، فى ظل بروز جوانب إنسانية تتفاعل مع مشاعر الحماس والفخر والقلق، مضى محمد عفيفى فى إبداع نصوص وفصول روايته «سلام على إبراهيم»، والتى تعمد ألا تخرج فى شكلها النهائى ككتاب تاريخ، وإنما نص أدبى قادر على استفزاز عقل القارئ وتحفيزه نحو إعمال الفكر، وتوسيع دائرة البحث عما ورد بها عقب الانتهاء من فصولها. وأثار عفيفى فضول القارئ منذ عتبات النص، باستخدام العنوان والصورة التى تظهر على الغلاف، كاشفة عن إشارة إبراهيم باشا بإصبعه الذى يتجه إلى الأمام، ليكتشف القارئ مع المضى فى محطات الرواية، أن الغلاف يعبر عن حالة من النجاح والمجد لإبراهيم باشا، صاحب الصولات والجولات والانتصارات التى وصلت إلى جنوب الأناضول، وأن هذا التمثال لإبراهيم باشا مكتوب عليه فى الأساس: «سلام على إبراهيم.. قاد جيشه من نصر إلى نصر». امتزج أسلوب الكتابة الجيد واللغة قوية، مع دقة المعلومات التاريخية، بهدف ملموس لدى القارئ من جانب المؤلف، وهو الرغبة فى إنصاف «إبراهيم باشا» صاحب الأدوار والبطولات العظيمة، ورد الاعتبار له من حملات تشويه شهدها فى حياته وحتى بعد مماته، حيث نالت منه شائعة ترددت حول أنه لم يكن ابنا لمحمد على باشا، وإنما تم تبنيه، ومصدر الشائعة ابن أخو إبراهيم باشا، عباس الأول، وكان الغرض منها تشويه صورة إبراهيم. كما مضى عفيفى بأسلوب رشيق يليق بروائى يتقن ما يصنع، ليسط الضوء على خبايا نشوب صراع ونزاع بين محمد على وإبراهيم باشا، بسبب كبر سن الأول وتعدد انتصارات الثانى، حيث غار الأب من مجد ابنه بشكل كبير، فى ظل جمل حوارية تم نسجها بحس مرهف، لتناول أحداثا تتعلق بالملك فاروق، كطلاقه من الملكة فريدة، وتأثير والدته نازلى وشدة والدة الملك فؤاد عليه، ووفاة أحمد حسنين رئيس الديوان الملكى فى عهد الملك فاروق، والذى كان بمثابة ركيزة حكمه والعقل المدبر له. جاء الوصف الجيد للمشاعر حاضرا بقوة، وسط براعة ملحوظة فى نقل القارئ كليا إلى أزمان أخرى، والسيطرة على ذهنه ووجدانه فى عملية معاينة فترات فارقة التاريخ المصرى، وفى درجة إتقان تقديم المؤرخ لعمل روائى حقيقى، ذكر وزير الثقافة الأسبق عماد أبو غازى، على الغلاف الخلفى للكتاب: محمد عفيفى لم يتعامل معها برؤية المؤرخ الذى يوثق حدثًا تاريخيًّا ويحلله، بل بخيال الروائى الذى يخلق الأحداث وينسج جمل الحوار متحررًا مما يكبل المؤرخ من قيود، وأنه فى عمله الثانى يرسِّخ محمد عفيفى أقدامه فى عالم الرواية، بعد أن احتلَّ مكانه البارز فى عالم الكتابة التاريخية، مستفيدًا من التراكم الذى حققه فى دراسته للتاريخ، مقدمًا لنا مزيجًا مثيرًا من المتعة والمعرفة. وقد استعان محمد عفيفى فى روايته، بأكبر قدر من الحوارات بين الشخصيات، التى جاءت فى وعاء لغوى تراوح ما بين العامية البسيطة، وما بين الفصحى التى أضافت إلى جماليات الرواية، وحيوية الشخصيات وما أدار بينهم من حوارات أثرت المواقف، وساعدت على وصف المشاعر فيها بشكل جيد. يشار إلى أن محمد عفيفى؛ له مؤلفات عديدة باللغتيْن العربية والفرنسية منها: عرب وعثمانيون، شبرا، نوافذ جديدة: تاريخ آخر لمصر. وصدرت روايته الأولى «يعقوب» عن دار الشروق عام 2020. وهو أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر ورئيس قسم التاريخ السابق بكلية الآداب جامعة القاهرة، والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة. حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية لعام 2020 2021، وجائزة الدولة للتفوق فى العلوم الاجتماعية عام 2009، وجائزة الدولة التشجيعية فى العلوم الاجتماعية عام 2004.