الإمام الأكبر: المجتمعات الشرقية تحسب للدين ألف حساب رغم دعوات الإباحة والتحلل.. والإسلام وجَّه الشباب عند الرغبة في الزواج إلى الاستعداد العقلي والخلقي .. واصل شيخ الأزهر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، حديثه عن «الأُسْرَة في الإسلام»، وما وضعته الشريعة لمرحلة الخطوبة. وقال شيخ الأزهر ، اليوم السبت، خلال الحلقة الرابعة والعشرين من برنامجه الرمضاني «الإمام الطيب»، إن شريعة الإسلام إن كانت أباحت للخاطب، بل طلبت إليه أنْ ينظرَ إلى مخطوبته، فكذلك أباحت للخاطب والمخطوبة أن يرى كلٌّ منهما الآخر ويتعرفَ عليه، حتى تتوالد بينهما مشاعر الأُلفة والمودَّة، ولكن في غير خَلوةٍ ينفرد فيها كلٌّ منهما بالآخر، بل في حضور الأسرة أو حضور بعض أفرادها، والخلوة في فترة الخطوبة من أشدِّ الأخطار التي تتربص بالمخطوبة على وجه الخصوص، ومن حُسن الحظ أن مجتمعاتنا الشرقية لاتزال تحسب لهذه الأخطار ألف حساب، رغم دعوات الإباحة والتحلل التي تحملها الرياح المسمومة، وتهب على الأسرة الشرقية التي صاغتها الأديان وصنعتها الأخلاق والآداب منذ آلاف السنين، ورغم ذلك تريد هذه الدعوات أن تقتلعها من جذورها وتُلقي بها في أحضانِ الشَّيطان ودَرَك الجحيم. وبيَّن أنَّ من توجيهات الإسلام للشابّ الذي يرغب في الزواج ألَّا يكون مقياسُ اختياره هو مُجرد الميل القلبي للقائِها والتحدث إليها ولا مقياس وراء ذلك، فهذا الميل على أهميته البالغة لا يصلح وحده ليكون المرجعية في استكمال هذا المشروع الكبير الذي سماه القُرآن الكريم: «مِّيثَاقًا غَلِيظًا»، وإنما يحتاج الأمر فيه إلى الاطمئنان -قَدْر الإمكان- إلى الاستعداد العقلي والخُلُقي، والقدرة على تحمل مسؤولية الاشتراك في صنع أسرة قادرة على تحدي الصعوبات وتجاوز المشكلات، والإسلام حين يبني الأسرة فإنما يبنيها على هذه الصفات، وكلها من باب الأخلاق والقيم الإنسانية. وأوضح شيخ الأزهر أن أبرز صفات المرأة التي تغري الرجل بالاقتران بها تدور على صفاتٍ أربع: الجمال، ووجاهة العائلة: حَسَبًا ونَسَبًا، ووفرة مالها، ثم الدين والأخلاق، وهذا ما ذَكَرَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في قولِه: «تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، وهو صلى الله عليه وسلم وإنْ كان يُعوِّل كثيرًا على ذات الدِّين في هذا الحديث، إلَّا أنَّه لا ينفي الاهتمام بالمؤهلات الثلاثة السابقة، بدليل أنه في أحاديث أخرى حث على التزوج من الودود الولود، ومن ذات الوجه الحسن التي قال فيها حين سُئل: «أي النِّسَاء خَيْر؟ قال: التي تَسُرُّهُ إذا نَظَرَ، و تُطِيعُهُ إذا أمَرَ، لا تُخالِفُهُ في نَفسِها ولا مالِها بِما يَكرَهُ»، وغير ذلك. وأكد شيخ الأزهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوجَّه بالفوزِ بذات الدِّين فلعلمه صلى الله عليه وسلم بأنَّ مؤهلاتِ الجمالِ والمال والنَّسَب قصيرةُ العُمْر وكثيرة التغيُّرٍ والتبدُّلِ، حتى تصبح، في بعض الأحيان، وكأنها عامل من عوامل شقاء الأُسرة وتدميرها، بخلاف مُؤهل الدِّين وطبيعته العاصمة للزوجة المتديِّنة من الوقوع في أسر فتنة الشكل، أو سطوة المال والجاه، أو الفخر بالنسب أو المركز الاجتماعي للعائلة أو الأسرة، فالمال -مثلًا- لا خلاف في أنه أحد أقوى أعمدة الحياة، وأن النفس ترغب في اقتنائه واكتنازه، بل تُقدمه عليها أحيانًا كثيرة، ولكنه رغم أهميته لا يحقق السعادة المفقودة ولا يعوضها، إنه لا يُحقق المودة والرحمة التي بنى القرآن عليها عش الزوجية، لأجل ذلك كان الارتباط بالزوجة من أجل ثرائها ارتباطًا بمشروع مادي يعرض له من تقلبات الخسارة والمكسب ما يعرض لأي مشروع تجاري. وحذر فضيلته من أن التزوجُ من أجل المال يعمي بصيرة الزوجين عن رؤية عيوبهما، فيذهبان إلى عش الزوجية وهما مغيبان بتأثير الحلي والمتاع والأثاث الفاخر وبهرج الحفلات، وكلها أمور ذوات عُمر قصير سرعان ما يستعلن بعدها الفارق الاجتماعي بين الزوجِ والزوجة، بل سُرعانَ ما تَضيق الزوجة بالإنفاق على الزوج، ويتملَّكها شعور بأنَّها هي سَيِّدة هذا العُش، وأنَّ الذي معها ليس فارسًا كما تحب كل زوجة هانئة سعيدة أن ترى زوجها، وهذا الإحساس يقلب مشاعرها رأسًا على عقب؛ إذ الإنفاق على الزوجة والاهتمامُ بتلبية حاجاتها ومَطالبها وحاجات أولادها هو الرصيد اليومي المتجدِّد لشعور الزوجة بأنَّها مرغوبة عند زوجها وذات حظوة لديه.. إن الزوجة التي تعلم أنَّ زوجها قد تزوجها لمالها -فقط- لا تشعُر أنَّها تعيش مع زوج، بقدر ما تشعر أنَّها تعيش مع خادم أو مدير منزل تأتي أهميته في الدَّرجة الثالثة بعدها وبعد أولادها، وهذا كلُّه من وراء تحذيره صلى الله عليه وسلم من زواج المرأة لمالها فقط، في حديثٍ صريح نتلوه على مسامعكم في حينه. وفرَّق شيخ الأزهر في هذا المقام بين أمرين أو حالتين: الأولى: أن يكون المال هو الباعث على الزواج من المرأة أو الفتاة الثرية. الثانية: أن يكون الباعث على الزواج من المرأة أخلاقها وعقلها. ثم تكون مع ذلك ذات ثراء. فالحالة الأولى هي الحالة الخطر في اختيار الفتاة؛ لأن ثروتها -إذا لم تكن هي ذاتَ دين وخُلُق- سوف تحملها على احتقار زوجها، طال الزمن أو قَصُر. أمَّا الحالة الثانية فهي من الحظوظ الجميلة التي يُرْزَق بها الزوج؛ إذ احترامه لزوجته وحُبه إياها مصدرُه ذات الزوجة وشخصيتها وسلوكها، وليس مصدره التطلُّع إلى مالها.. وأضاف أنه في الحالة الأولى [حالة الزواج للمال فقط] لا يوجد ضامنٌ لاستمرار الأسرة، إذا ما استبدَّ طمع الزوج في مال زوجته، وإذا ما غلبت على الزوجة طبيعة الحرص على المال والبُخل به حتى على النفس. أمَّا الحالة الثانية فهناك الزوج المضمون بتعفِّفه عن مال زوجته، والزوجة المضمونة بتديُّنها وأخلاقها من أن تطغى بمالها على زوجها. وتابع شيخ الأزهر أنَّ الشيء نفسه يُقال على عنصر «الجمال» فرغم أنه من النِّعَم التي فُطرت القلوبُ على الميل إليها والتغنِّي بها، إلَّا أنَّه -مثل المال- إذا افتقد عُشُّ الزوجيَّةِ بواعثَ المودَّة والرحمة؛ فإنَّ جمال الزوجة لا يعوضها وزوجها ذرَّةً واحدة مِمَّا افتقداه، ومعلوم أنَّ الجمال ليست له مقاييسُ أو معاييرُ محدَّدة، وأنَّه أمر نسبي، فقد يَفتن وجهٌ جميل عشراتِ الناس، إلَّا أنه عند آخرين لا يعدو أن يكون وَجْهًا متوسط الحال.. وقد يكون الجميل جميلًا ما دُمْتَ غريبًا عنه يُحال بينك وبينه، فإذا طُويت المسافات، وتلاقت الوجوه وتعايشت، غاض الإحساس بالجمال، وانطفأت شعلةُ الإعجاب أو خَبَا ضوؤها ووهجُها، وحينئذٍ يلزم البحث عن مثيرات أخرى للإعجاب غيرِ الشَّكل والصُّورة، ومن لوازم الجمالِ الشعورُ بالزهو والإعجاب بالنفس، وهي صفاتٌ أقرب إلى باب الرذائل منها إلى باب الفضائل. واختتم شيخ الأزهر حلقته الرابعة والعشرين ببرنامجه الذي يذاع على عدد من الفضائيات المصرية والعربية بالقول: لكلِّ ذلك أو لبعضِه حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم شبابَ أمته من أن يكون مقياس اختيارهم لزوجاتهم هو: المال فقط أو الجمال فقط، وإنما «الدِّين» الذي هو مجمعُ الأخلاق والفضائل، فإن انضم إليه مال أو جمال فهو فضل كبير من الله على عبده، وإن عَرِيَ عنهما ففيه وحده الكفاية والغناء.. يقول صلى الله عليه وسلم: «لا تَزَوَّجوا النساءَ لِحُسْنِهِنَّ فعَسَى حُسْنُهُنَّ أن يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَزَوَّجوهنَّ لِأَمْوالِهِنَّ فَعَسى أَمْوالُهُنَّ أن تُطْغِيَهُنَّ، ولَكِنْ تَزَوَّجوهُنَّ عَلَى الدِّينِ».