القصور التاريخية في مصر ليست مجرد أمكنة وجدران وشوارع، إنما هي تاريخ لا يزال حيا، سجل يُخلد أسماء وشخوصا وأحداثا، رمز لنمط عمارة ساد، وظروف عصر خال، وثقافة مجتمع تقلبت عليها السنوات، لكنها ظلت تحمل شيئا من توقيعه، لا يزال محفورا في ومضة هنا أو أخرى هناك. تلك القصور ما هي إلا تاريخ لم تطوه كتب أو مجلدات، فلا يزال حيا نابضا يثبت أنه أقوى من كل محاولات العبث التي بدأت بعشوائية المصادرات ومحو أسماء أصحاب القصور من فوق قصورهم، ولافتات الشوارع التي حملت يوما أسماءهم تخليدا لدور قدموه للوطن أو خدمة جليلة قاموا بها لنهضة مجتمعهم. في سلسلة "قصور منسية"، تستعرض "الشروق" خلال شهر رمضان الكريم، قصصا لقصور مصر المنسية، استنادا إلى كتاب "قصور مصر" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، للباحثة سهير عبدالحميد، والذي يتناول قصص وحكايات وراء أشهر القصور المصرية. قصر الأميرة كاظمة.. ديوان تاريخ تركيا في القاهرة أكثر يلفت الانتباه في هذا القصر الفاخر المطل على ضفاف النيل في حي الجيزة، والذي أضحى بيتًا للسفير التركي بالقاهرة منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي، هي تلك اللفتة النبيلة من السفير التركي الأسبق "ياشار كاش" الذي حرص على تزيين القصر بصورة صاحبته الأصلية الأميرة كاظمة التي لم يقدر لها أن تعيش لتسكنه، فقد عهد إلى الفنان المصري فريد فاضل عام 1997 أن يستلهم «تابلوه» لها من تلك الصورة الصغيرة للأميرة في لوحة شجرة العائلة العلوية. من بين العديد من مباني السفارات الفرنسية والروسية والبرازيلية واللبنانية والإماراتية والسعودية والفنلندية يوجد منزل السفير التركي بالقاهرة الذي يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1918 عندما وضع تصميمه المهندس المعماري الإيطالي «لاشياك» لمالكته الأولى الأميرة كاظمة، وهي ابنة السلطان حسين كامل من زوجته الأولى عين الحياة، كريمة الأمير أحمد رفعت باشا من زوجته الأميرة دلبرجمان قادن. والدها السلطان حسين كامل ووالدتها الأميرة عين الحياة وقد تزوجت الأميرة عين الحياة التي ولدت في الخامس من أكتوبر عام 1858، من السلطان حسين كامل "كان لا يزال أميرًا آنذاك"، في الخامس عشر من يناير 1873، في مراسم أسطورية شهدتها أفراح الأنجال الشهيرة، فقد تعهد الخديو إسماعيل أبناء أحمد باشا رفعت بالعناية الفائقة بعد حادث غرقه أو «قتله» في كفر الدوار. وقد أثمرت تلك الزيجة أربعة أولاد: الأمير كمال الدين ولد 20 من ديسمبر 1874، والأميرة كاظمة 16 من يوليو 1876، والأميرة كاملة 12 من أكتوبر 1877، والأمير أحمد كاظم 21 من إبريل 1879، وقد حرص السلطان على أن تبدأ أسماؤهم جميعًا بحرف الكاف. وفاة مبكرة أحزنت من حولها ولم يستمر زواج السلطان من عين الحياة؛ إذ تم الطلاق، وتوفيت الأميرة عين الحياة في الثاني عشر من أغسطس 1910، وبعدها ببضع سنوات توفيت ابنتها الأميرة كاظمة 29 من يناير 1921، في عنفوان شبابها، والتي ماتت في روما بعد صراع مع المرض، وفارقت الروح جسدها بين يدي شقيقها الأمير كمال الدين الذي رافقها مع الأميرة قدرية شقيقتها لإتمام علاجها. وفور إعلان خبر وفاتها توافد كبار رجال الدولة على قصر السلطانة ملك زوجة أبيها بالأقصر حيث تعودت قضاء الشتاء سنويًّا، وفي مقدمتهم السلطان فؤاد قبل أن يتحول لقبه إلى الملك فؤاد الذي أعلن الحداد على الأميرة رسميًّا لمدة واحد وعشرين يوما ابتداء من يوم الوفاة. وأصدر ملك إيطاليا أمره إلى وزارة البحرية بإعداد سفينة خاصة لركوب الأمير وشقيقته قدرية لمرافقة جثة شقيقته التي وصلت إلى مصر يوم الأحد 6 من فبراير، حيث سارت الجنازة من محطة القاهرة إلى مدفن الأسرة السلطانية. جنازة مهيبة وسيرة عطرة وأقيمت ليالي المأتم الثلاث في سراي الأمير كمال حسين، وتصف صحيفة «الأهرام» الصادرة يوم الإثنين 7 من فبراير 1921: "مراسم الجنازة في مشهد رسمي مهيب تقدمه الجنود من الفرسان والمشاة منكسي السلاح وطلبة العلم فالدراويش، فنعش الفقيدة يسير خلفه السادة العلماء وقضاة المحكمة الشرعية، وحضرة صاحب المعالي محمود شكري باشا، رئيس الديوان العالي السلطاني، وصاحب العزة عثمان بك فهمي وكيل الديوان العالي السلطاني بالنيابة عن حضرة صاحب العظمة السلطان فؤاد، فأصحاب السمو الأمراء يتقدمهم صاحب السمو السلطاني الأمير كمال الدين حسين وصاحب السمو الأمير عمر طوسون، وصاحب الدولة رئيس الوزراء وأصحاب المعالي الوزراء الأسبقون، فحضرات كبار رجال القصر السلطاني الذين في القاهرة ثم قناصل الدول والمستشارون ووكلاء الوزارات وكبار الموظفين". وبعد بضعة أيام نشرت صحيفة «الأهرام» أن سمو الأمير كمال الدين حسين تبرع بمبلغ مائتي جنيه لمبرة محمد علي التي والدته الأميرة عين الحياة قد أسستها، وذلك على روح شقيقته الأميرة كاظمة هانم التي توفيت بعد حياة لا يبدو أنها كانت حافلة بالأضواء؛ فلم تذكرها صحف تلك الفترة التاريخية أو كتابات المؤرخين بالكثير، ومما نشر عنها أنها كانت من بين الأميرات اللواتي تبرعن لتركيا عقب وقوع الحرب بينها وبين دول البلقان، في 17 من أكتوبر 1912، حيث بدأت جمعية الهلال الأحمر المصري برئاسة الأمير محمد علي حملة لوضع خطة عمل لإرسال البعثات إلى ميدان القتال وفتح باب التبرع لسد نفقاتها، وشاركت الأميرة كاظمة بمبلغ 500 جنيه. قصرها يذهب لشقيقها كمال الدين حسين وقد ظلت الأميرة كاظمة تتمتع، شأن سائر كل أشقائها وشقيقاتها، برعاية الملك فؤاد الذي كان في الوقت ذاته عمَّا لهم، وبعد وفاة الأميرة كاظمة آل قصرُها، الذي لم يكن قد اكتمل إنشاؤه بعد، إلى شقيقها الأمير كمال الدين حسين، الذي كان يعيش مع زوجته الأميرة نعمت الله توفيق في قصره الكائن على أطراف كوبري قصر النيل جهة ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا)، ولأنه لم يكن في حاجة إليه فقد ظل القصر مغلقًا، وبعد وفاته آلت ملكيته إلى زوجته الأميرة نعمت الله. وفي عام 1942، قام سفير الجمهورية التركية بالقاهرة حينذاك «نعمان طاهر سيمن» بشراء هذا المبنى باسم الحكومة التركية بغية تخصيصه منزلاً للسفير من الأميرة نعمت الله بمبلغ 33 ألف جنيه مصريًّا. ومن عجائب المصادفات أن تسكن القصر ابنة عمة الأميرة كاظمة، وهي الأميرة أمينة طوغاي، ابنة الأميرة نعمت مختار شقيقة حسين كامل، وذلك بوصفها زوجة للسفير التركي فؤاد طوغاي، وكان ذلك في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي. قصر الأميرة كاظمة ومقتنياته والقصر من السهل تمييزه في تلك الضاحية من خلال القطع الحجرية الحمراء التي تكسوه، وما إن تعبر بوابته الرئيسية حتى تجد نفسك أمام مبنى القصر الذي يحتل مساحة 2000 متر مربع تقريبًا ويتكون من بدروم ودور أرضي ودورين علويين ويحتوي على 36 غرفة. سلم القصر يأخذك بعد بضع درجات إلى قاعة فسيحة، وفي المدخل إلى يسارك مبخرة نحاسية ضخمة منقوشة بعناية تشبه نظيرتها في قصر الأميرة فاطمة إسماعيل، وعلى الجدران لوحات تمثل الحياة في قرن مضى، ثم بضع درجات رخامية أخرى تسلمك إلى قاعة القصر الرئيسية، التي تظللها قبة زجاجية ملونة تطل على الردهة، التي تتفرع منها عدة حجرات على الجانب الأيمن تطل على شرفة القصر المتسعة. يضم هذا الجانب غرفة الطعام وصالون الاستقبال بنمطيهما الكلاسيكي، وفي كل ركن بهما تتناثر، بذوق رفيع، دواليب الفضية التي تحوي كثيرًا من المقتنيات الأصلية التي كانت تخص القصر، معظمها تحف زجاجية منقوشة بألوان متباينة، كل قطعة أثاث تبدو كأنها خلقت لهذا المكان. اقرأ أيضا: قصور منسية (12).. قصر محمد علي.. حرب الحجاز سبب إنشائه في مركز مصر الحربي