إذا جاز لنا أن نصف المشهد السياسى فى مصر الآن فقد نلخصه فى نقطتين، الأولى أن قطاعات لا يستهان بها من النخب ومن الأجيال الجديدة يئست من المراهنة على إمكانية الإصلاح فى ظل الوضع القائم، والثانية أنها باتت تتلهف على رؤية «المخلص» الذى يرد لها الأمل والثقة فى المستقبل. 1 هذه اللهفة بدت واضحة فى خطاب أغلب الصحف المستقلة وقنوات التليفزيون الخاصة فى مصر، الذى عبر عن حفاوة غير عادية بوصول الدكتور محمد البرادعى يوم الجمعة «19/2»، الأمر الذى يكاد يعيد إلى الأذهان الأصداء التى شهدتها مصر حين عاد إليها زعيم الأمة سعد باشا زغلول من باريس فى عام 1921. حين كتب الأستاذ العقاد أن سعد «ملك ناصية الموقف من ساعة وصوله (بالباخرة) إلى شاطئ الإسكندرية، وثبت فى عالم العيان لمن كان فى شك من الأمر إن هذا الرجل أقوى قوة فى سياسة مصر القومية». وتساءل الدكتور محمد حسين هيكل قائلا: «أقدر للإسكندر الأكبر أو لتيمور لنك أو لخالد بن الوليد أو لنابليون بونابرت أن يرى مشهدا أجل وأروع من هذا المشهد؟». وهى ذات الفكرة التى سجلها شفيق باشا فى «حولياته» حين قال: «لقد روى لنا التاريخ كثيرا من روايات القواد والملوك الذين يعودون إلى بلادهم ظافرين، فيحتفل القوم احتفالا باهرا باستقبالهم. ولكن لم يرد لنا التاريخ أن أمة بأسرها تحتفل برجل منها احتفالا جمع بين العظمة غير المحدودة والجلال المتناهى لم يفترق فيه كبير عن صغير، احتفالا لا تقوى على إقامته بهذا النظام أكبر قوى الأرض، لولا أن الأمة المصرية أرادت أن تأتى العالم بمعجزة لم يعرف لها التاريخ مثيلا». صحيح أن كتابات الحفاوة التى صدرت هذه الأيام لم تذهب إلى هذا المدى فى الترحيب بالدكتور البرادعى والإشادة به، إلا أنها اختلفت عنها فى الدرجة وليس فى النوع. وهو ما يغرينا بالمقارنة بين الحدثين لأن ثمة تباينا بينهما من أكثر من وجه. ذلك أن سعد باشا كان زعيما حقيقيا انتخبته الأمة وأجمعت عليه ووكلته عنها فى تمثيلها فى مقاومة سلطة الاحتلال البريطانى والتفاوض معها. وكان الرجل على مستوى الأمل الذى انعقد عليه، حيث لم يهدأ فى نضاله ضد الإنجليز وتحديه لهم، الأمر الذى أدى إلى تفجير الثورة ضدهم عام 1919، مما دفعهم إلى إلقاء القبض عليه ونفيه مع عدد من رفاقه إلى مالطة، بما يعنى أن سعد زغلول كان قد اختير وأثبت جدارته بسجله النضالى الذى أثبته على الأرض، كما كان قد دفع ثمن مواقفه، لذلك فإن حيثيات الإجماع عليه كان مسلّما بها من جانب القوى السياسية المختلفة فى مصر. الوضع فى حالة الدكتور محمد البرادعى اختلف. فهو مرشح افتراضي لرئاسة الجمهورية من جانب أغلب نخب الجماعة الوطنية المصرية، غير المنخرطة فى الأحزاب المعتمدة، وهى النخب التى ضاقت بممارسات النظام ولم تعلق أملا على الأحزاب التى صنعها النظام على يديه وأجازها. أما الدكتور البرادعى ذاته فإنه يتمتع بخلفية وظيفية مشرفة ومرموقة، ومستقبله السياسى فى مصر أمامه، بخلاف سعد زغلول الذى كان فى قلب السياسة، واحتل موقعه استنادا إلى خلفيته النضالية. فى ذات الوقت، لا وجه للمقارنة بين قوة السياسة فى زمن سعد زغلول، وبين موتها فى زماننا، وإن ظل الرفض قاسما مشتركا فى الحالتين، أعنى رفض الاحتلال البريطانى آنذاك، ورفض نظام الطوارئ المحتكر للسلطة فى هذا الزمان. 2 السؤال الذى يستحق أن نفكر فيه هو: لماذا تلك الحفاوة الشديدة باستقبال وترشيح رجل مثل الدكتور البرادعى رغم زعامته المفترضة وليست الحقيقية، وخلفيته الوظيفية المقدرة وليست النضالية؟. أرجو ألا يخطر على بال أى أحد أننى استكثر على الرجل أن يحتفي به فى بلده. وأسجل فى الوقت ذاته شعورى بالنفور والقرف إزاء حملة التجريح المسف التى استهدفته وقادتها بعض الأبواق المحسوبة على النظام فى مصر. وإذ أقر بأن الحفاوة به واجبة، إلا أن تساؤلي منصب على دلالة المبالغة فى تلك الحفاوة، إلى الحد الذى يكاد يضع الرجل فى مقام «المخلِّص» المنتظر للوطن، فى تفسير ذلك هناك عدة احتمالات، أحدها أن البعض انحاز إليه وتعلق به لا لأنه البرادعى ولكن لأنه ليس مبارك الأب أو الابن. تماما كما أن كثيرين أعطوا أصواتهم لباراك أوباما فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ليس إعجابا بالشخصية ولكن لأنه ليس جورج بوش. هناك احتمال آخر أن يكون بعض مؤيديه، ليست لديهم تحفظات على النظام القائم ولكنهم أدركوا أنه لم يعد لديه ما يعطيه بعد مضى نحو 30 سنة على استمراره، ومن ثم فإنهم أصبحوا يتوقون إلى تغييره بأى بديل آخر، وجدوه فى البرادعى من حيث إنه شخصية دولية مرموقة. ثم إننى لا أشك فى أن هناك فريقا من الناس استشعروا مهانة حين وجدوا أن فكرة توريث الحكم فى بلد بحجم وقيمة مصر أصبحت متداولة بغير حرج، ولذلك فإنهم ما إن وجدوا بديلا محترما مطروحا فى الأفق، حتى تعلقوا به وخرجوا يهتفون باسمه. من تلك الاحتمالات كذلك أن يكون البعض قد وجدوا أن النظام القائم فى مصر حرص على التلويح طول الوقت بأنه لا بديل عنه، وأن البديل الذى يمكن أن يحل محله هو الإخوان المسلمون، الذين أصبح اسمهم بمثابة «فزاعة» تخيف فئات عدة فى الداخل والخارج، وحين وجد هؤلاء أن هناك رمزا لا هو من الحزب الوطنى ولا من الإخوان، سارعوا إلى الاصطفاف وراءه ومبايعته. من الاحتمالات كذلك أن يكون آخرون قد أدركوا أن ثمة فراغا سياسيا فى مصر، وأن النظام القائم حريص على الإبقاء على ذلك الفراغ عن طريق مصادرة أو «حرق» أى بدائل متاحة، لكى يصبح الحزب الوطنى ومرشحه هو الخيار الوحيد الباقى. وإزاء حصار البدائل الممكنة واستمرار إجهاض الحياة السياسية، فإن هؤلاء ما إن وجدوا أن رمزا مصريا أتيح له أن يبرز فى خارج البلد ويتمتع بقامة ومكانة رفيعتين بعيدا عن نفوذ النظام وتأثيراته، حتى اعتبروه فرصة لا تعوض، ومرشحا مناسبا لقيادة السفينة الموشكة على الغرق. ولا أستبعد أن يكون حماس البعض للدكتور البرادعى راجعا إلى اقتناعهم بأن طول إقامته فى الخارج أكسبه تمثلا لقيم الليبرالية المفتقدة عندنا، الأمر الذى يجعله مرشحا مقبولا فى العواصمالغربية، فضلا عن أن وجوده بالخارج جنبه مزالق التصنيف ضمن مراكز القوى وشبكات المصالح الموجودة فى مصر، وهو بذلك يجمع بين «الحسنيين؛ رضا الخارج عليه وثقة الداخل فيه، بمعنى التطهر من مثالب النخبة الحاكمة فى البلد. 3 إذا كانت المقارنة بين رصيد الدكتور البرادعى، وبين أرصدة الذين يديرون البلد فى الوقت الراهن، فإن كفة الأول ستكون أرجح لا ريب، ولكن النتيجة قد تختلف إذا ما حولنا البصر عن السلطة ومددناها نحو المجتمع، إذ سنجد فى هذه الحالة نظائر أخرى له، ربما كان لبعضها رؤى أعمق وأكثر ثراء فى قراءة الواقع المصرى وتحليل مشكلاته. وهو ما خلصت إليه حين جمعت الحوارات والتصريحات التى صدرت عن الدكتور البرادعى وقارنت مضمونها بتحليلات بعض المثقفين المصريين من أمثال المستشار طارق البشرى فى كتابه «مصر بين التفكك والعصيان»، والدكتور جلال أمين فى كتابه «ما الذى جرى للمصريين»، والدكتور إبراهيم شحاتة فى مؤلفه «وصيتى لبلادى» وتلك مجرد أمثلة فقط، لأننى لا أشك فى أن هناك آخرين لهم إسهاماتهم المقدرة فى ذات المضمار، وإذا جاز لى أن استطرد فى هذه النقطة، فلعلى أضيف أن ما سمعناه أيضا من الدكتور أحمد زويل عن العلم والتعليم لم يضف شيئا إلى ما دعا إليه العلماء المصريون طوال السنوات التى خلت، أذكر منهم على سبيل المثال فقط الدكتور محمد غنيم والدكتور إبراهيم بدران والدكتور مصطفى طلبة والدكتور محمد القصاص والدكتور حامد عمار وغيرهم وغيرهم. لا أريد أن أقلل من شأن الرجلين. فكل منهما له مقامه الرفيع فى اختصاصه، وحين حصلا على جائزة «نوبل» فتلك شهادة حفظت لهما ذلك المقام وحصنته، لكن هناك فرقا بين تقدير النموذج وإحاطته بما يستحق من احترام، وبين تحويله إلى «مخلِّص» تعلق عليه آمال إخراج البلاد من الظلمات إلى النور. فى ذات الوقت فلا استبعد أن تكون تلك القيمة المقدرة لكل منهما قد انضافت إليها هالة خاصة اتسمت بالإبهار فى نظر كثيرين، حين احتل كل واحد مكانته المرموقة خارج مصر، وهو أمر قد يفهم عند أهل الاختصاص. لكن تقييمه يمكن أن يختلف حين يتعلق الأمر بالعمل العام الوثيق الصلة بمصير الوطن وحلمه. فيما خص الدكتور البرادعى فإننى مع الحفاوة به وأرحب بشدة بانضمامه إلى الصف الأول فى كتيبة دعاة التغيير والإصلاح فى مصر، رغم أننى أشك فى جدوى مطالبته بأولوية تعديل الدستور فى ظل الأوضاع الراهنة، فتجربتنا أثبتت أن كلا من المناخ السائد والأيدى التى تتولى التعديل لا يبعثان على الثقة أو الاطمئنان فى تحقيق الإصلاح المنشود من ذلك الباب. 4 لا مفر من الاعتراف بأن حملة تأييد وترشيح الدكتور البرادعى جاءت كاشفة لأزمة النظام فى مصر ومدى الخواء السياسى الذى أنتجته، ذلك أنه بعد مضى نحو ثلاثين عاما فى سدة الحكم، وفى وجود 24 حزبا شرعيا، على هامشها نحو عشر مجموعات للناشطين تشكلت للدفاع عن الديمقراطية والحقوق السياسية، إضافة إلى العشرات من منظمات المجتمع المدنى وحقوق الإنسان. رغم توافر هذه الكيانات كلها فى بلد يضم 83 مليون نسمة، فإن المناخ المخيم لم يسمح بإفراز قيادة سياسية من الداخل يمكن أن تكون محل إجماع من الجماعة الوطنية المصرية فتعلق نفر منهم بأول مخلص لاح فى الفضاء. فى الولاياتالمتحدة يقولون إنه إذا تكرر رسوب التلاميذ فى أحد الفصول المدرسية، فإن المعلم هو من ينبغى محاسبته، لأن ذلك يعنى أنه فشل فى أن يستخلص من التلاميذ أفضل ما فيهم. ذلك ينطبق أيضا على عالم السياسة لأن الجدب الظاهر الذى نعانى منه الآن فى مصر، يعد شهادة على فشل إدارة المجتمع ودليلا على إصرار تلك الإدارة على تعمد إخصائه وإصابته بالعقم لحرق البدائل وتسويغ احتكار السلطة. من هذه الزاوية فإن استدعاء شخصية مصرية نزيهة ومحترمة من خارج المعترك السياسى لايبدو مخرجا من المأزق الذى نحن بصدده، وإذ لا أشك فى أن الرجل أفضل من الموجود، لكنه يظل فى وضعه الراهن دون المرجو والمنشود إلا إذا خاض المعترك وقطع أشواطا على دربه. إذا سألتنى ما العمل إذن؟.. فردى انه لا بديل عن احتشاد للجماعة الوطنية يقيم حوارا حقيقيا حول تشخيص الأزمة الراهنة، وأولويات التعامل مع عناوينها، وهل تحتل الأولوية مسألة تعديل الدستور أم قضية إطلاق الحريات العامة وإلغاء الطوارئ، التى توفر مناخا مواتيا لتعديل الدستور بحيث يصبح ركيزة حقيقية للديمقراطية، وليس قناعا لممارسة التسلط والديكتاتورية. إن علاج التشوهات وعمليات التفكيك والإعاقة التى تعرض لها المجتمع المصرى خلال العقود التى خلت مما لا يحتمل التبسيط أو حرق المراحل. ذلك ان الأمل فى التغيير يمثل رحلة طويلة وشاقة، علما بأن المتمترسين وراء الأوضاع الراهنة يعتبرون استمرارها مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم. لذا لذم التنويه، ووجب التريث والتحذير.