إذا أردنا أن نلمس ما أحدثته ثورة يوليو من تحول جوهرى فى الأغنية الوطنية فيكفى أن نستمع إلى أغنية «حب الوطن فرض عليا» التى غناها قبل الثورة الموسيقار محمد عبد الوهاب ونقارنها بالأغانى التى شدا بها بعد الثورة ولتكن نشيد القسم» ففى الأولى يقول: «ليه بس ناح البلبل ليه.. فكرنى بالوطن الغالى قضيت أعز شبابى فيه..وفيه حبايبى وعزالى» فنلمس علاقة رومانسية حالمة بين الفرد والوطن تدور على إيقاع ناعم كسول وفى لحن يقطر شجنا يعبر من خلاله الشاعر/المطرب عن عاطفة مطلقة غير فاعلة وغير إيجابية، وليس لها معالم أوحدود بينما يمارس الشاعر/المطرب حالة من التعبئة الفاعلة من أجل إرساء قواعد المستقبل، مع ما يكلفه ذلك من خوض الأخطار. فيقول: «أقسمت باسمك يابلادى فاشهدى أقسمت أن أحمى حماك وأفتدى سأفى بعدك بالفؤاد وباليد..وبنور حبك أستضىء وأهتدى». فلم يكن غريبا أن تترجم الأغنية الوطنية الخطاب السياسى لحركة يوليو وأن تتشابه معه وتتطور بتطوره، فإذا كان البيان العسكرى مقتضبا قصيرا ذا لهجة حادة صارمة، فإن الأغنية الوطنية تتسم بنفس طابعه لذا يغلب عليها الطابع الصارم والجدية البالغة، وتصبح الفصحى ذات الطابع التلغرافى هى لغة الأغنية التى يعادلها لحن عسكرى منتظم يتوزع على آلات نحاسية تستلهم الخطوة العسكرية للجنود فتغنى ليلى مراد شعار الثورة (الاتحاد النظام والعمل): «على الإله القوى الاعتماد.. بالنظام والعمل والاتحاد فانهضى يا مصر يا خير البلاد وانعمى بالمجد وامضى للرشاد بالاتحاد والنظام والعمل». ويغنى عبد الحليم حافظ أهداف الثورة: «ثورتنا المصرية أهدافها الحرية وعدالة اجتماعية ونزاهة ووطنية» ولا تنسى الأغنية الوطنية أن ترد الاعتبار إلى الطبقة العاملة فيغنى عبد الحليم «بدلتى الزرقاء لايقة فوق جسمى فى جمال لونها مركزى واسمى» «لونها قربنى من السما الصافية.. وأما بالبسها بالبس العافية» وتترجم شادية نداء القيادة السياسية للمرأة لتشارك بفاعلية فى حركة التنمية: «يا بنت بلدى زعيمنا قال: قومى وجاهدى ويا الرجال» ويتحول شعار (ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد) إلى أغنية شعبية غناها محمد قنديل: ارفع راسك واوعى تطاطى ولا تهتم لغير العاطى وبتوقيع اتفاقية الجلاء عام 1954 تعبر الأغنية الوطنية عن الفرح العارم فتحرص على استدعاء الذاكرة الجمعية للشعب المصرى لتمسح جراح الثورة العرابية التى أشعلها الجيش المصرى الذى أخرجه إجهاض الثورة من المسرح السياسى ليعود بحصوله على الاستقلال إلى القمة على يد ضابط هو ناصر. فيغنى عبدالمطلب: «قولوا لعرابى أخدنا بتارك من اللى خانوك خرج الغاصب اللى شرانا من اللى باعوك» ويرفع تأميم قناة السويس عام 1956رأس المواطن المصرى عاليا وهو يحكى قصة الكفاح الملحمى للأجداد فى حفر القناة فيغنى عبدالمطلب: «يا سايق الغليون عدى القنال عدى.. وقبل ما تعدى خد مننا وادى ده اللى حفر بحر القنال جدى.. عدى..عدى يا سايق الغليون» وهى أغنية تحمل طابع الكبرياء والطيبة اللذين يتميز بهما المصريون. وبالزغاريد تزف أم كلثوم بكلمات جاهين المرشدين المصريين الذين أداروا القناة باقتدار بعد انسحاب الأجانب من إدارتها: محلاك يا مصرى وأنت على الدفة والنصرة عاملة فى البلد زفة «يا اولاد بلدنا تعالوا ع الضفة .. شاورولهم غنولهم وقولولهم» «ريسنا قال مفيش محال..راح الدخيل راح وابن البلد كفَّى!!» وفى هذه الأغنية استطاع الملحن المنفعل بالكلمات العميقة أن يصور حالة الفرح الجماعية المصحوبة بالنداءات (تعالوا وشاوروا وغنوا وقولولهم). وهنا نلاحظ الحضور القوى للجماهير التى صارت «فاعلا سياسيا» فى الأغنية التى صارت تستخدم ضمير المتكلمين عند تسجيل الأحداث السياسية. الأغنية آلية دفاع عن الوطن: مثلت الأغنية الوطنية أهم أسلحة المقاومة الشعبية فى مواجهة العدوان الثلاثى عام 1956، فالكلمات الحادة الحاسمة كطلقات الرصاص تنطلق بها حناجر المجاميع فى لحن عسكرى موزع على آلات نحاسية ففى نشيد «الله أكبر» يهتف الجيش/ الشاعر/المصرى: «الله أكبر فوق كيد المعتدى..والله للمظلوم خير مؤيد أنا باليقين وبالسلاح سأفتدى بلدى ونور الحق يسطع فى يدى قولوا معى الله أكبر يا هذه الدنيا أطلى واسمعى، جيش الأعادى جاء يبغى مصرعى بالحق سوف أهده وبمدفعى.. وإذا فنيت فسوف أفنيه معى». وهنا يحتمى البطل التراجيدى المصرى بالذات الإلهية فى ملحمة البطولة يقينا منه بأن المظلوم غالب فى النهاية. وهو يصرخ على كلمات الشاعر عبد الله شمس الدين وبصوت فايدة كامل التى حملت فى طيات صوتها «فيلقا عسكريا كاملا» على حد قول الزعيم الخالد جمال عبد الناصر: «دع سمائى فسمائى محرقة.. دع قناتى فمياهى مغرقة واحذر الأرض فأرضى صاعقة..دع سمائى دع قناتى». والشاعر/ الجندى يستخدم أفعال الأمر التى لا تهادن أو تقبل المساومة كما يصب الرعب فى قلب العدو بإفزاعه من المساس بأرض الوطن أو سمائه أو مياهه التى تدب فيها روح وطنية فتصبح: محرقة/ صاعقة/ مغرقة. وفى نشيد «والله زمان ياسلاحى»، تمثل أم كلثوم روح الجماعة التى تخاطب الجموع قائلة: «هموا وضموا الصفوف..شيلوا الحياة ع الكفوف». وهى تستعرض قدرة الشعب الخارقة: «الشعب بيزحف زى النور، الشعب جبال الشعب بحور بركان جبار..بركان بيثور.. عمال بيحولهم فى قبور».