يحدث أحيانا أن ننسى أسماء جيراننا، بعض أقاربنا، بعض زملاء العمل والدراسة أو حتى أصدقاء كانوا مقربين، وذلك رغم استمرار الشراكة فى الحياة. ويحدث دائما أن أجيالا متواترة تظل تتذكر لأجيال مفكرا أو مبدعا أو زعيما، وطنا بعيدا ذا رائحة فى طى ذكرى، أو تاريخ، مايجعلنا نفكر فى مراجعة مفهومينا عن كل من الحياة والموت. الأربعاء الماضي وعام هو الخامس والثلاثون يكتمل منذ رحيل كوكب الشرق «أم كلثوم» لم تتجدد الذكرى لأن شيئا لم يكن قد خفت بعد، ف«ثومة» كانت من هذا الصنف الثانى الذى يغافل الموت ويتحول إلى فكرة تصير جسدا، يشارك مفردات الكون طبقات الحياة، ويعلق بالأمكنة والحوادث والعيون. لذلك سيكون مبالغا فيه أن نشكو من انخطاف الأضواء عن هذى الذكرى لصالح الانتصارات الشتوية لكرة القدم، خاصة أن «الست» كانت من عشاق هذه اللعبة. يروى الكاتب الصحفي مصطفى أمين أن مما لايعرفه الناس عن هذه المرأة التى وصفها بالأهم من بين نساء العالم أنها «كانت من عشاق الكرة، وكانت فى وقتٍ من الأوقات تحضر كل مباريات كرة القدم فى النادى الأهلى، وأنها وقفت حكما فى بعض المباريات، وفى بعض المباريات الأخرى وقفت حارس مرمى. وكان الذين يلعبون معها فى ذلك الوقت الأستاذ التابعى، وكامل الشناوى، ومأمون الشناوى وأحمد ألفى عطية». لذا فأم كلثوم التى يفترش صوتها الذكى أرصفة الشوارع المسفلتة، والأزقة الجانبية، والجدران الداخلية لقلوب المراهقات والنضّج، والمسافرين، والخارجين للعمل، والعائدين، والذين هم على وشك النوم، والمسترسلين فى المذاكرة أو كتابة الشعر، أو حتى إعادة ترتيب الدواليب، فضلا عن مصنفى البضائع، وحاملى الزهور وراكبى الباصات، أم كلثوم أظنها سيرضيها هذا الحضور. وبالعودة إلى الحقيقة الكروية الفائتة، فقد قامت بتوثيقها وغيرها من الحقائق والمواقف، والنوادر والمبكيات أ.د.رتيبة الحفنى، قبل نهاية العقد الأخير من القرن الماضى فى كتابها الصادر عن دار الشروق بعنوان «أم كلثوم». هذا الكتاب المرجعى يتتبع السيرة الشخصية والإبداعية لسيدة الغناء العربى، وتتجدد أهميته على الدوام من خلال الدراسات، والكتب، والسير الفنية، التى ما زالت للآن منشغلة بأمر هذه السيدة، بحيث لا تكاد تخلو قائمة مراجع أكثر هذه الكتب من هذا الكتاب. وقد رجعت فيه المؤلفة للكثير من الشواهد الحية، وبعض الشهود الذين كانوا أحياء آن ذاك، بالإضافة إلى بعض الذكريات التى صادفتها المؤلفة بنفسها بفعل انتمائها إلى أسرة موسيقية، عميدها والدها الرائد الموسيقى الراحل محمود أحمد الحفنى، فضلا عن كون المؤلفة ذاتها إحدى أهم رائدات الموسيقى فى الوطن العربى، بصفتها مغنية أوبرا عالمية، وعميدة معهد الموسيقى العربية فى القاهرة سابقا، كما أنها أول امرأة تتولى منصب مدير دار الأوبرا المصرية. فى هذا الكتاب الذى قسمته إلى ستة فصول، جمعت الحفنى بين السيرة الشخصية والفنية والتاريخية للسيدة أم كلثوم، فحاولت ضمنيا منذ أولى صفحات الكتاب أن تكشف كيف ستكون تلك الطفلة الضئيلة هى هذه المرأة العظيمة، حيث إن مكانتها كدرة مضيئة لاحت لأبيها الشيخ «إبراهيم» فى إحدى غفوات ليلة القدر فى 27 رمضان بالمسجد، حيث «رأى فى منامه سيدة فى ملابس بيضاء.. يشع وجهها نورا تعطيه لفافة خضراء. وعندما فتحها وجد فى داخلها شيئا له بريق». الشيخ «إبراهيم» أخبرته السيدة بيضاء الملابس أن بهذى اللفافة «جوهرة هى بشرى السعد»، أما السيدة نفسها فكانت بحسب رواية والد «الجوهرة» هى «أم كلثوم» ابنة النبى «محمد»، وكان هذا لائقا بميلاد سيدة الغناء العربى. هذا عن الميلاد، أما الطفولة المبطنة بالفقر، الذى خبرته البنت من حوارات والديها الليلية، فلم تكن رغم ذلك تخلو من سعادة، فرغم ماروته عن والديها مثل: «أنا مش قادر ادفع مصاريف أم كلثوم للكتّاب.. ما عنديش غير قرش واحد أدفعه للولد»، رغم ذلك كانت هناك عروسة جدتها نصرة التى صنعتها لها من البفتة وملأتها قطنا ورسمت لها وجها، وكانت أحب شىء لدى الطفلة أم كلثوم، وكانت هناك ليالى شهر رمضان الجميلة، ثم العيد الذى كان بالنسبة لها»، جلابية وجزمة جديدة.. ودايما كانوا بيجيبوها مقاس يا يطلع ضيق قوى يا واسع قوى! أنا وحظى». لكن سعادة أم كلثوم الحقيقية كانت يوم أن التقت الشيخ أبوالعلا محمد، بعد لقاءات طويلة مع صوته المشع من فونوغراف عمدة القرية، الذى كانت تتنصت إليه البنت أسفل الشباك: «كان الفونوغراف يسكت.. ولكن صوت الشيخ أبو العلا كان يستمر فى أذنها، وكانت تتصور أنه قد مات، إلى أن جاء اليوم الذى التقت فيه الشيخ أبوالعلا فى محطة السنبلاوين، وسمعت والدها يقول: «الشيخ أبو العلا هنا..» تقريبا كان هذا الرجل هو المحطة الأهم فى حياة أم كلثوم، كان تأييدا مثله لصوت مثلها شهادة كافية لفتح أبواب كثيرة أمامها. بهذا التأييد انتقلت «ثومة» إلى القاهرة التى كرهتها للوهلة الأولى بعدما فقدت فيها «تحويشة العمر»، ومن خلاله أيضا التقت أحمد رامى الشاعر الذى غنت أشعاره قبل أن تراه، ونمت بينهما قصة حب ضمنية، ربما برأت هى منها بعد حين، لكنها لم تبرأ من عشق كل كلمة نطق بها رامى حتى وفاتها. أما رامى فلم يبرأ من ذلك الحب حتى بعد وفاة كوكب الشرق، التى رافقها فى رحلتها لأكثر من نصف قرن، شدت فيه من كلماته ما يقرب من 300 أغنية وقصيدة، لذا تصدقه عندما يقول: «إن أيامى كلها أم كلثوم»، أو يقول «لم يشاركنى فيها شاعر خمسة وثلاثين عاما»، وذلك قبل أن تغنى أم كلثوم لبعض الشعراء الكبار الآخرين، مثل: شوقى وحافظ وناجى والجارم وبيرم وغيرهم من الشعراء العرب. هذا عن الشعراء، أما ملحنو أم كلثوم فكان أكثرهم التصاقا بها محمود القصبجى، الذى أخذ بيد هذى التلميذة، فمهد لها طريق النجاح، ولازمها فى فرقتها حتى وفاته، فضلا عن الشيخ زكريا أحمد الذى التقته «ثومة» فى بداية حياتها ولازمها فى حفلاتها، وقدم لها العديد من ألحانه اختتمها بأغنية «هو صحيح الهوى غلاب». منذ عام 1945 انضم رياض السنباطى إلى ملحنى أم كلثوم، ثم بدأت تتعامل مع الملحنين الشباب من أمثال: الموجى، وكمال الطويل، وبليغ حمدى والشيخ سيد مكاوى، قبل أن تتوج فى نهاية رحلتها الفنية هذه الرحلة بلقاء السحاب بينها وبين موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، وهو اللقاء الذى ظل يحلم به جمهور الطرب ومحبو الموسيقى العربية، وقام بتحقيقه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، عندما طلب من هذين العملاقين تقديم عمل مشترك وإلا: «لن أغفر لكما عدم اشتراككما فى عمل فنى واحد حتى الآن»، وكانت رائعة «إنت عمرى» تليق بهذه الرغبة وطالبها وبهذه الشراكة. أخيرا فإن كتابا واحدا عن أم كلثوم على أهميته الكبيرة سيصير ظلما، وعين واحدة على قربها لا يمكن أن تراها، لأنها كما وصفها موسيقار الأجيال: «فيها عشر مغنيات معا.. كل ميزة تجعل منها مطربة كبيرة.. كانت مجموعة من عطايا الله السخية. أم كلثوم المغنية الوحيدة التى جمعت بين القوة والعاطفة والحساسية فى صوتها. وإنها الصوت الوحيد الذى تمرد على ذل الميكروفون». هذا وأغلب الظن أن أعمالا كثيرة فى المستقبل سيحاول كل منها إضاءة جوانب ما زالت خفية فى حياة سيدة الغناء.