بتاريخ حضارتها الممتد لآلاف السنين، واحتضانها وتفاعلها مع الثقافات المحيطة الأخرى؛ أصبحت مصر أشبه بلوحة فنية بديعة من مكونات عمرانية وعادات تراثية. ووراء كل منها عقول بشرية صنعتها؛ ليكون من الجدير بها أن يطلق عليها لقب "اللي بنّى مصر"، وتحت هذا العنوان سنتعرض في حلقات مسلسلة بعض من ملامح سيرة من شكلوا لمصر وجها الحضاري العظيم وتراثها الملهم، وذلك على مدار شهر رمضان المبارك. وإلى الحلقة الثامنة.. من المؤكد أنه بالأيام المنصرمة من شهر رمضان، قد صادفك سماع أغنية "رمضان جانا" عشرات المرات، ذلك بمجرد ساعات قليلة من متابعة أحد القنوات التلفزيونية أو محطات الإذاعة أو حتى مع جولات التسوق بأحد المتاجر لشراء الاحتياجات من السلع الغذائية. ولا زالت الأذن تستسيغ اللحن على الرغم من عمره الممتد لما يزيد عن نصف قرن، ويعكس ذلك أن صاحب اللحن متمتع بموهبة كبيرة تضعه في مراتب الأفذاذ في تاريخ الموسيقى العربية، إنه الملحن السكندري" محمود الشريف" والذي ولد سبتمبر 1912، وأحب الموسيقى منذ طفولته ودرس بالإسكندرية وظل بها حتى عام 1939،مع إندلاع الحرب العالمية والتي ألقت بظلالها على عروس المتوسط؛ حيث هجرها أهلها إلى المدن المجاورة. وتسبب غارات هتلر بشكل غير مباشر في بداية مشوار مجد الشريف الفني، بتوجهه إلى القاهرة وفتحت له أبواب الشهرة بعد طول صبر ومعاناة، وأعجب به محمد عبد الوهاب حين سمع لحنه لعبد المطلب بتساليني "باحبك ليه"، وبدأت بينهما صداقة منذ ذلك الوقت، وقدمته هذه الأغنية إلى الجمهور ثم أصبح واحدا من أشهر الملحنين في مصر، وذلك بحسب مقال للناقد الموسيقي الدكتور أسامة عفيفي. وعن قصة لحن " رمضان جانا"، قال الناقد الفني أحمد السماحي، ل"الشروق"، تعتبر أغنية (رمضان جانا) من الأغنيات التي أصبحت ضرورة من ضرورات شهر رمضان، مثل القطايف، والزبيب، وقمر الدين، والكنافة. ويضيف السماحي، أنها أصبحت النشيد القومي لقدوم شهر رمضان، وبمجرد سماعها نعلم بقدوم الشهر الكريم، لها قصة ففي البداية قام بغنائها المطرب محمد شوقي قبل محمد عبدالمطلب بلحن للملحن الشهير سيد مصطفى؛ لكنها لم تنجح ولم يشعر بها أحد، مما جعل شاعرها حسين طنطاوي يعرضها على الملحن الشهير " أحمد عبدالقادر" صاحب الأغنية الشهيرة "وحوي يا وحوي" التي غناها في نهاية الثلاثينات، لكن الملحن الشهير أعتذر عن تلحينها بحجة أن لديه أغنيات كثيرة عن شهر رمضان، فقام الشاعر بعرضها على الملحن الجديد " محمود الشريف" الذي فرح بها، واستدعى صديقه المطرب " محمد عبدالمطلب" لغنائها، وبالفعل تم غنائها في 2 رمضان 1943. ويتابع السماحي، أن الأغنية كانت تحمل كوبليهات أكتر من التى نسمعها حاليا، لكن مع ظهور التليفزيون وقصر مدة الأغنية، تم حذف كوبليه الذي يتحدث عن الليل والشمع؛ لأن الكهرباء فى الستينات كانت غزت معظم الريف المصري، والكوبليه الثاني الذي يتكلم عن "المحمر والمشمر" وجدوه أنه سيأذي مشاعر البسطاء والفقراء فتم حذفه هو الآخر. وذكر السماحي، نص تلك الكوبليهات المحذوفة، والتي جاءت كالتالي: بالليل نولع قناديلك والشمع يقيد الليل بطوله نغني لك ونقول ونعيد وندور على بيوت أصحابنا نملا جيوبنا من أحبابنا أهلا رمضان رمضان جانا، أهلا رمضان م العصر نستنى المدفع وودناه معاه من فرحه ساعة ما يلعلع فى الجو صداه، والأكل قدامنا محمر وشي مشمر، وشي مشمر أهلا رمضان، رمضان جانا ويختتم السماحي، أن الشريف لحن الأغنية من مقام جهاركاه، وقدم لحن بسيط وسهل يدخل القلب بدون استئذان، وساعده على هذا نص (حسين طنطاوي) وأسلوبه في التشطير والقوافي الداخلية، ونجحت الأغنية في التعبير عن فرحة المسلمين بقدوم شهر رمضان بعيدا عن السطحية والمباشرة إلى التعمق الذي يتحرى فلسفة وروح الفريضة. وغدا نلتقي في حلقة جديدة.. اقرأ أيضا: اللي بنى مصر (7).. فرانسوا ميريت.. الفرنسي صاحب فكرة إنشاء المتحف المصري