على أرض مصر كثير من الأبنية التي تعبر عن العراقة والتاريخ، وشكّلت من خلال أساليبها الفنية المختلفة متحفا مفتوحا يمكنك من خلاله التعرف على الطراز المعماري الفني لهذه الحقبة الزمنية. وفي سلسلة من الحلقات المستمرة خلال شهر رمضان، نغوص في عالم من الفنون تَشكّل على أرض مصر، نتعرف على طرزها المعمارية وقصص نشأتها، ونستكشف عوالمها الفنية البديعة، في رحلة عبر التاريخ، من خلال كتاب "قصور مصر"، للكاتبة سهير عبدالحميد. تقول الكاتبة في مقدمة كتابها: "قصور مصر تاريخ لا يزال حيا، لأنها ليست مجرد أمكنة وجدران وشوارع، إنما هي سجل يخلد أسماء وشخوصا وأحداثا، رمز لنمط عمارة ساد وظروف عصر وثقافة مجتمع تقلبت عليها السنون، وظلت تحمل شيئا من توقيعه لا يزال محفورا في ومضة هنا وأخرى هناك". • بيت الكريتلية.. طرز وجنسيات مختلفة تحدثنا في الحلقة السابقة عن قصر محمد علي في السويس، وننتقل الآن من المدينة الساحلية إلى حي السيدة زينب في القاهرة، حيث يوجد منزل الكريتلية، وكان في واقع الأمر بيتين منفصلين، الأول بناه المعلم عبدالقادر الحداد عام 1540، والثاني أقامه الحاج محمد سالم الجزار عام 1631، وهو الذي يقع على يمين المدخل من الدهليز الموصل إلى الباب الشرقي من جامع بن طولون. وتشير المصادر إلى أن ابنة الجزار هي التي قامت بضم البيتين عن طريق قنطرة، ومضت سنوات وانتقلت ملكية المنزل إلى امرأة من كريت اليونان، حيث عُرِف بعد ذلك نسبة لها، وأسماه العامة "الكريدلية". ثم انتقل المنزل من ملكية ذات جنسية يونانية، إلى إنجليزية، عندما جذب الضابط البريطاني داير أندرسون، وتقدم بطلب إلى الحكومة المصرية عام 1934 لكي يقيم فيه، على أن يترك داخله كل الآثار والتحف التي جمعها، وتحول المنزل إلى متحف بعد وفاته. يحمل المنزل ملامح الطرازين المملوكي والعثماني، وما ميز هندسة البيوت الإسلامية في القرن ال17 من أعمال المشربيات، ثم تطبع بالطراز الأوروبي الذي أضفاه "أندرسون" من خلال قطع الأثاث ذات الطابع الإنجليزي والفرنسي، التي تعكس ذوق القرن ال18. يضم المنزل أكثر من دار للسكن والمعيشة والاستمتاع برفاهية المسكن، ويحمل سمات البيوت الإسلامية معماريا، وهو يتكون من بيتين متقابلين، يضم كل منهما 4 طوابق، ويتصلان ببعضهما من أعلى عن طريق مجموعة من الغرف، ما يشبه الجسر بين البيتين، اللذان يحويان 27 غرفة. من أهم علامات الطابع الشرقي للمنزل، الواجهة المكسوة بشبابيك المشربيات التي لم تفقد وحدتها وتماسكها ورونقها عبر الزمن، والبيت من الداخل شديد الاتساع، ويطل على حديقة داخلية مربعة الشكل، وتتناغم مع ذلك الأرائك والمناضد الخشبية المطعمة بالأرابيسك، ومن السقف تتدلى المصابيح العربية ذات الزخارف. لا يضم المنزل طرازا واحدا، على سبيل المثال، نلاحظ الطراز الصفوي الإيراني -الذي كان شائعا في القرن ال16 في إيران- على الجدران من خلال مجموعة من الدواليب المدفنوة بزخارف ملونة، ومن خلال سلم خشبي يصل إلى غرفة القراءة، وهي علامة من علامات البيوت الإسلامية، وتجاورها غرفة للكتابة مكسوة بسجاجيد إيرانية معلقة على الحائط. ومن الطراز الإيراني إلى الإنجليزي، الذي يتمثل في غرفة الطعام، التي أضافها "أندرسون"، وهي من طراز آن ستيوارت ملكة بريطانيا، وغرفة استقبال من طراز لويس السادس عشر ملك فرنسا، ولوحات مختلفة الجنسيات جمعها أندرسون. وهناك غرفة نوم دمشقية الطراز تشغل جناحا كاملا مستقلا، وهناك غرفة أخرى ذات طراز فارسي. يعرف "طراز الملكة آن"، بأنه أسلوب معماري إنجليزي باروكي، في عهد الملكة آن (1702-1714)، وتم إحياءه وكان شائعًا في الربع الأخير من القرن ال19 والعقود الأولى من القرن ال20، ويستخدم هذا المصطلح في الغالب من المباني المحلية، وعادة ما يصمم بأناقة ولكن ببساطة من قبل بناة أو مهندسين محليين. و"المشربية" هي أسلوب معماري فني تبرُز عن البناء إلى الأمام، كلها من الخشب الأرابيسك، وتحظى بالدقة والمهارة في صنعها وزخرفتها، وتقوم بتوزيع الضوء والظل في تدرج رائع، يعلوها طاقات من الزجاج الملون المعشق. وظهرت المشربية في العمارة الإسلامية مرتبطة بالخصوصية، وتعطي للسكان حرية الرؤية والمشاهدة، ونلاحظ أن التكوين الهيكلي والزخرفي لها يتفق مع الظروف المناخية لمعظم بلدان العالم الإسلامي، وفق كتاب "جماليات الفنون في الثقافة الإسلامية". أما الطراز المعماري الإيراني فقد مر بمراحل تاريخية مختلفة، بين السلجوقي والمغولي والصفوي وغيرها، لكن يتسم بالزخارف وتزيين العمائر والمقرنصات وكسوة العمائر بالقاشاني والسجاجيد الملونة، وكانت تشتهر إيران بصناعة السجاجيد، وكانت قوام زخارفه حيوانات خرافية وحقيقية مرسومة بطريقة ظاهرة. وغدا نلتقي في حلقة جديدة.. اقرأ أيضا: أماكن وطرز معمارية (1).. قصة قصر محمد علي في السويس وعلاقته بالطراز التركي