«ممنوع دخول الصحفيين، وغير جائز الإدلاء بأى تصريح بشأن معهد الأورام»، كانت هذه التعليمات التى تجاوزتها «الشروق» بالدخول إلى المعهد التابع لجامعة القاهرة، لرصد معاناة بشر بسطاء جدا يحتاجون إلى نظره اهتمام قبل العطف عليهم. وتبين أن قصة إخلاء المبنى الجديد أو الجنوبى للمعهد لم تأت بين ليلة وضحاها وإنما سبقها عدة تحذيرات، بل وعدة بدائل للمبنى الجديد، فقد كان هناك ثلاثة خيارات يعلمها أساتذة الهندسة جيدا فإما الهدم أو الإخلاء الجزئى وإما الإخلاء الكلى للمبنى. وأمام الخوف من كارثة إنسانية فضل رئيس جامعة القاهرة أن يتخذ قرارا على مسئوليته بإخلاء المبنى ووضع الأمر على مكتب النائب العام للتحقيق. عند الدخول كان سهلا التمييز بين مبانى المعهد الثلاثة حيث يتكون المعهد من مبنى شمالى قديم من 7 أدوار ومبنى أوسط لا يتجاوز ثلاثة أدوار ومبنى شمالى «جديد» تبدو واجهته جميلة جدا من الخارج ولكن من الداخل يعلم الله ما أصابها من شروخ وعلامات يدركها المهندسون جيدا ويشخصونها على أنها «سرطان» منتشر بين جدران المبنى حسب توصيف د. هانى الهاشمى مستشار رئيس جامعة القاهرة للإنشاءات والاستشارات الهندسية والمشرف على اللجنة الهندسية التى طالبت بإخلاء المبنى. وتعد الأعمال الإنشائية والترميمية مرشدا على الطريق لمن يريد تفقد المعهد، وحسب الخريطة فالمبنى القديم الشمالى يقع على طرف المعهد من ناحية الشمال، ومن المعروف أن المبنى القديم تباشر أعماله الآن شركة وادى النيل منذ ثلاث سنوات، ما يجعل المارة يتساءلون: متى تنتهى تلك الأعمال؟ حاولت «الشروق» الحصول على إجابة عن السؤال بواسطة أحد المهندسين، فضل عدم ذكر اسمه، حيث قال إن الشركة لم تتأخر ولكن ضعف إمكانات المعهد المادية فضلا عن بعض الظروف الأخرى كانت سببا لتوقف الأعمال التجديدية والإنشائية المفترض الانتهاء منها منذ عام 2007. ويرصد المهندس التغيير المفاجئ بالمبنى قائلا: «فجأة تلقينا أوامر بسرعة الانتهاء من هذا المبنى بل وحرمنا من إجازة عيد الشرطة اليوم للانتهاء منه حيث تبقى الطابق الاول والثانى فقط ويصبح كل شىء جاهزا لاستقبال المرضى من المبنى الجنوبى «الجديد». وأضاف أنه سمع بعض التعليمات المتعلقة بتوفير ثلاثة مصاعد جديدة ستركب بسرعة الصاروخ بواسطة ثلاث فرق من المهندسين الفرقة الواحدة تتكون من 13 مهندسا وعاملا فنيا». «الشروق» أكملت الجولة إلى المبنى الأوسط الذى التقطت له عشرات الصور من قبل مصورين صحفيين من الخارج باعتباره هو المبنى المنكوب والسبب أن مظهره الخارجى بدا متأثرا بشدة بترشحات الصرف الصحى واستخدام المياه العشوائى داخل المبنى. وهنا تتركز الغرف الإدارية لمدير المستشفى والمدير المناوب وعميد المعهد ووكلائه الذين رفضوا اسقبالنا وأشاروا إلى ورود تعليمات جديدة بأن رئيس الجامعة أو وزير التعليم العالى هما من لهما الحق فقط فى الإدلاء بتصريحات بهذا الشأن وقد كان الموقف حرجا للغاية لهم بعد أن رتبوا للصحفيين فى وقت سابق عشرات المقابلات لتوضيح الصورة. أما فى المبنى الجديد الذى يتكون من 13 دورا حيث تجرى عمليات الإخلاء فتظهر مكاتب خالية وصناديق كبيرة تضم أوراقا ضخمة عتيقة وعيادات خالية مكتوب عليها بخط اليد قسم الجراحة. ومن وقت لآخر، يمر طبيب نسأله إلى أين سيذهب المرضى فيحرك رأسه يمينا ويسارا قائلا: «الأطباء أنفسهم لا يعلمون وهناك توقف فى استقبال حالات التى تتطلب الحجز أو إجراء عمليات لحين صدور التعليمات». الضجيج والصراخ بالدور الأول فى المبنى المنكوب لم يكن يدل على أن هذا المبنى مهدد بالانهيار، فعشرات الأطفال المصابون بالسرطان يبدو شكلهم مميزا، حيث يتلقى معظمهم العلاج الكيماوى ويظهر فى أيديهم البلاستر الطبى لحفظ مكان لأخذ الحقن. وهنا مجموعة من القصص الإنسانية المثيرة التى يسردها آباء أو أمهات جاءوا من كل بقعة فى مصر لعلاج أطفالهم، فتحكى أم ولاء عن ابنتها التى لا تتجاوز الأشهر الخمسة ومصابة بورم خبيث فى الساق اليمنى.. تشير إلى ساق ابنتها المنتفخة بشدة وتقول: «بدأت ولاء تتلقى العلاج من شهر يوليو فقط ورفض مستشفى سرطان 75357 استقبال طفلتها رغم عدم وجود أى ملف لها فى أى مستشفى» واستدركت «استقبلونى بشكل جيد ولكنهم صدمونى بالقول لا يوجد مكان خالٍ هنا»، وتتابع لم يكن لى مكان إلا معهد الأورام ومع ذلك لا أعلم متى ستكمل ابنتى العلاج بعد اخلاء المعهد». تلتقط طرف الحديث سيدة غاضبة مرددة «حسبنا الله ونعم الوكيل فى مستشفى سرطان الأطفال»، وتسرد قصة عن ابنها حسين المصاب بسرطان فى البطن مؤكدة انها حاولت الدخول إلى المستشفى الذى طالما سمعت عنه عبر التليفزيون ولكن الأمن منعها، «كانت ابنى سيموت فى حضنى ودخلت فى خناقة مع الأمن هناك الذين وصفوا لى مكان المعهد هنا لكى أباشر علاج ابنى وهو الحمد لله حالته مستقرة الآن ولكن العلاج بالجرعة توقف لحين معرفة مكان آخر للعلاج نظرا لظروف المبنى». الآباء يحكون قصصا كثيرة عن مستشفى سرطان الأطفال يؤمنون بصحتها يقول الأب محمد وهو يحمل ابنه يوسف المصاب بسرطان فى الدم والنخاع أن المستشفى يباشر علاج أطفال من دول عربية يمتلكون ثمن لعلاجهم. وتنفعل أم وائل الذى يجلس فى ركن الغرفة حيث يبدو أثر العلاج الكيماوى على فروة رأسه وتقول: «طلبوا منها تبرعا بمبلغ كبير أو واسطة من لاعب الكرة أبوتريكة حتى تدخل ولكنها فقيرة ولا تعلم كيف تصل إلى لاعب الكرة الشهير». يعلم الجميع هنا بمن فيهم المسئولون أن الاطفال المصابين بالسرطان هم أكثر تضررا من إخلاء المبنى، أما الآباء والامهات الذين يتحملون كل لحظة صراخ ألم من أطفالهم فيطالبون بإعلامهم فقط وبشكل مباشر عن المكان البديل الذى سيؤدى إلى تخفيف جزء من آلام أطفالهم.