«ياللا يا بنتى.. شَهّلِى شوية.. انتِ هتعملى رِجل الكيكى؟!». هكذا اعتادت جدتى مناداتى حين كانت تحاول حَثِّى على الإسراع فى العمل وتقديم الخدمة بسرعة دون الالتفات لضرورة الجودة، كانت رِجل الكيكى هى مضرب المثل فى الاتقان والدقة والتأنى والإجادة و«الروقان» وهى مقتضيات الفن وبديعه فى عصر جدتى التى لا تُلزم بها وعيا أو بدون حفيدتها الصغيرة، تمر السنون ووقع أقدام رِجل الكيكى ينبش أبواب الذاكرة ويدق جدران القلب، أسائِل جدتى أخيرا، ما هى رِجل الكيكى تلك؟ رجل الكيكى، هى تلك التشكيلات الجصية التى تزين العمارات كحليات للشرفات (الكوابيل) والتى أكسبتها فرادتها الفنية، حيث تحتل تلك الحلية الفنية الصغيرة مكانها على أسطح واجهات أشهر العمارات العريقة فى وسط البلد والتى لا تزال تحفة فنية معمارية رائعة تضاهى عمارة أوروبا وذلك حين أنشأها الخديو إسماعيل رغبة منه فى نقل باريس إلى القاهرة بداية من النصف الثانى للقرن الثامن عشر فكلف كبار المعماريين فى العالم أمثال: فيليان وهاوس مان وكاستمان ولاشاك وباتيجلى وأرلانجر بتصميم معمار تلك المنطقة، وفى غضون سنوات قليلة أضحت منطقة وسط البلد عنوانا للتحضر والتمدن من خلال طرزها المعمارية الفريدة سواء كانت كلاسيك أو باروك أو طراز قوطى وانعكس ذلك على عمارة وسط البلد التى تصفها الدكتورة سهير زكى حواس فى كتابها البديع «القاهرة الخديوية» بأنها متحف حى ومفتوح لتراث إنسانى يمثل مصر منذ بدايات تحديثها. (يا ناسية وعدى.. دا أنا من بدرى مستنى.. تواسينى) تتناهى إلى مسامعها باقى الجملة الموسيقية التى وضعها الموسيقار محمد عبدالوهاب حين تمر أسفل إحدى عمارات ميدان طلعت حرب بعد أن غسلت وجهها العمارة وتجددت ضمن ما تجدد فى مشروع إعادة إحياء القاهرة الخديوية التى يقوم بها جهاز التنسيق الحضارى لحماية التراث العمرانى بمنطقة وسط البلد والذى يستهدف استعادة بهاء القاهرة ورونق شوارعها بعمارتها الشامخة وميادينها العريقة التى تُكسب تلك المنطقة خصوصية بصرية فريدة علَّها تسترجع بعضا من الذاكرة المعمارية للمدينة العتيقة. تحكى العمارة تاريخ الإنسان وتُفصِح طرزها المختلفة وتنوعها عن ثراء ومرونة الشخصية المصرية التى تجاوزت اختلاف الألسن والثقافات والمجتمعات وأقبلت على كل هذا الزخم التاريخى والثقافى تستعيره وتجسده منحوتا على واجهات تلك العمائر التى عمرت ببشر الأمكنة ممن يطلون من نوافذها فيجاورون أسدا مجنحا كما فى عمارة أدريتيكا أو جميلات يونانيات وأطباق فاكهة وتماثيل ورءوس بشرية تظلل الشرفات كما فى قصر السكاكينى، وتحاول حليات الجص تلك أن تصمد فى وجه الزمن وتستمر فى أداء مهمتها حين تسند شرفات عمارات وسط البلد وشبرا والضاهر والعباسية والزمالك وجاردن سيتى وغيرها من أحياء قاهرية شهدت مولدها فى النصف الأول من القرن العشرين. العمارات نفسها جمعت بين أكثر من رمز حتى لو كانت على طرفى نقيض: رءوس الحملان تجاور رءوس السباع فى 56 شارع قصر النيل، وربما يزيِّن المبنى بأكاليل الزهور ومجسدات الأشجار المورقة كما فى 41 و 43 شارع شريف، ولم ينس المصمم المعمارى أن يتوِّج مبناه برأس أبوالهول المجنَّح أو يطعِّم شرفاته بغيرها من الموتيفات الفرعونية كالكوبرا والنسر المصرى والجعران القديم تميمة الحظ والحفظ للعمارة الشهيرة والقابعة بتقاطع شارعى رمسيس وشارع 26 يوليو، حتى مداخل البيوت وعتب الأحباب يوليها الفنان المصرى عناية خاصة ويتوجها بالمحسنات البديعية من المفردات المعمارية. يحكى المبنى حكايات بشره ممن عاشوا فيه، فيللا قصدجلى تتحول إلى السفارة الأمريكية إبان الأربعينيات لتصير فى النهاية مدرسة على عبداللطيف بجاردن سيتى، أما مكتبة القاهرة الكبرى فقد بنيت كقصر للسكنى وتحولت منذ أكثر من عشر سنوات لمكتبة، وفيللا توفيق بالزمالك تتحول إلى كلية التربية الموسيقية بما سيتسبب فى أضرار بالغة بالقصر لعدم ملاءمة الاستعمال مع قيمته التراثية، وهكذا يغيِّر الإهمال وهجرة السكان الأصليين ملامح المكان فيتحول المبنى السكنى لإدارى وتجارى وورش حرفية، نسبة كبيرة من عقارات وسط البلد تحولت إلى محال ومخازن ومصانع ملابس، ناهيك عن فوضى المعمار والأدوار المضافة فوق العمارات العريقة وتعديات الساكنين على كرامة العقار وامتهانه ليصدر القانون رقم 144 لسنة 2006 فى شأن تنظيم هدم المبانى والمنشآت غير الآيلة للسقوط والحفاظ على التراث المعمارى كمحاولة لإبقاء واستعادة الذاكرة المعمارية لمبانى مصر المحروسة وليكون هذا القانون تجسيدا لنداء جدتى الجامع لحلاوة أصوات عبدالوهاب وأم كلثوم والمشحون بزخم أفكار العقاد وطه حسين لتبقى رجل الكيكى تلك القوالب الجصية المفرَّغة التى جاءت من أوروبا حافظة لحسن الذوق المصرى، وصدق المثل القائل: الذوق إن خرج من باب النصر يِتيَتِّم.