إذا العالم تغير

لن تمر تجربة الغزو الروسى لأوكرانيا أيا كان شكل نهايته مر الكرام عليها، ولا على روسيا الغاضبة، ولا على أوروبا التعيسة، ولا على الصين الصاعدة، ولا على أمريكا المنهكة، ولا على بقية دول العالم ونحن بخاصة. لا أظن أن دولة من هذه الدول سوف تقف بعد الآن ساكنة أو راضية بحالها وبسياساتها الخارجية إلا العاجز تماما منها والفاقد الأمل والمستسلم لقدره. لنا سنوات وأكثرنا من المعلقين يتابع بغير كثير اكتراث ملامح التغير فى النظام الدولى، بعض هذا التغير حدث متدرجا فى أحيان فلم نلحظه وأقله فاجأنا فى أحيان أخرى فاستهنا أو لم نكترث. من هذا القليل، أو آخره، غزو الروس لأوكرانيا. الآن نهتم وسوف نهتم أكثر فى الأيام والشهور والسنوات القادمة، فالعالم بالفعل نراه بمجرد المشاهدة يتغير وبعض آثار التغيير صار يمس حياة الأفراد وليس الدول فحسب. لم يعد ممكنا أو مريحا استمرار كثير من المسئولين فى دول عديدة إنكار التغيير الحاصل أو الاستهانة بآثاره المباشرة وغير المباشرة على كافة الدول كبيرها وصغيرها. صدق مسئول كبير فى دولة أوروبية فى تصريح قبل أيام قليلة عبر فيه عن الواقع الجديد قائلا إن العالم الذى نعيش فيه تغير وعلينا أن نغير سياساتنا.
نعم تغير العالم وفى أيام قليلة تغيرت سياسات واتخذت دول بعينها مواقف لم تكن تتخذها من قبل. مسئولون فى دول أخرى رفعوا قليلا الغشاوة عن عيونهم ليروا حقيقة ما لم يكونوا يرونه من قبل أو كانوا يرونه تحت غيمة من الإنكار وعدم التصديق أو تحت غيمة من الضغط الخارجى أو الداخلى. يرون الآن واقعا مختلفا ويرون بعيونهم واقعا أو ملامح تغييرات قادمة فى سياسات أستطيع بكثير من الجرأة أو التطاول الكتابة عن بعض منها.
• • •
أولا: حصلت روسيا، صاحبة فعل التغيير هذه المرة، على حق الاعتراف بها قطبا، ثانيا أو ثالثا، فى النظام الدولى الجديد أو المعدل. أتصور أن الفعل، وهو فى هذه الحالة لم يكتمل، كافٍ بما أحرزه أو تسبب فيه لتأكيد حق روسيا فى أن يكون لها صوت وحق الفعل فى القارة الأوروبية، ليس كدولة كبرى فى الإقليم ولكن من واقع أنها قطب دولى «عائد» صاحب حق، وواجب، فى المشاركة فى إقامة نظام إقليمى مستقر وضامن للسلم فى الإقليم وفى العالم. حجة روسيا، وستظل نموذجا تحتذيه أى قوة صاعدة فى أوروبا بحكم أحقيتها التاريخية أو بحكم وزنها فى ميزان القوة الدولية والإقليمية، حجتها وهى مقنعة نظريا وإن كانت غير مقبولة عمليا الآن، أن النظام الإقليمى الأوروبى القائم فشل فى القيام بدور فعال لضمان السلم والأمن والاستقرار فى القارة العجوز. هذا النظام فشل فى منع وقوع غزو عسكرى من دولة فى الإقليم لدولة أخرى فى نفس الإقليم. فشل لأنه اعتمد على حليف من الخارج ليس بين أولوياته الدفاع عن أوكرانيا، أى الدولة الأوروبية المعرضة للغزو. بمعنى آخر تستحق أوروبا الآن نظاما أمنيا مختلفا يعتمد على مكونات أوروبية محضة كالنظام الذى عاشت فى ظله معظم سنوات القرن التاسع عشر.
• • •
ثانيا: ألمانيا تتسلح. نعرف أن ألمانيا التزمت على امتداد مرحلة نظامى القطبين والقطب الواحد بقواعد وضعتها الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية وأهمها الالتزام بعدم تسليح ألمانيا وعدم السماح لها بتسليح نفسها. نعرف أيضا أنها بفضل هذه القواعد حققت معجزة اقتصادية وسياسية سواء فى بناء الدولة الألمانية الموحدة ورفيعة المستوى الصناعى أو فى تنفيذ مشروع الوحدة الأوروبية. الآن يتغير الوضع من جذوره. الدول المنتصرة فى الحرب العالمية وصاحبة قواعد العمل المعمول بها فى النظام الدولى والتى تبنتها هى نفسها صارت تتخلى بدون خشية أو رهبة عن التزامها بتلك القواعد. أمريكا تخلت مرارا عن هذا الالتزام عندما شنت غزوات متكررة على دول أخرى إثباتا لحقها فى أنها أصبحت القطب الأوحد فى نظام دولى مختلف عن نظام القطبين. أما أن تفعل روسيا الآن الشىء ذاته فتطور يعنى للألمان وغيرهم أحد أمرين؛ أولهما أن النظام الدولى ذا القطبية الأحادية بالفعل يتغير ولم تعد قواعد عمله، التى هى قواعد عمل النظام السابق، محل التزام القوى العظمى كافة. وثانيهما أن فراغ القوة فى النظام الإقليمى الأوروبى صارت له قوة جذب صعب جدا على روسيا مقاومتها، روسيا هذه القوة المجاورة والكبيرة والمتطلعة للاستفادة من التغيير، رغم أنها كانت فى القرن التاسع عشر القوة الأوروبية الأكثر محافظة والمعادية للتغيير باستثناء المرحلة البلشفية، وفى ظنى أنها تعود. لو صح هذا المعنى فعلينا أن نتوقع خلال الفترة القادمة سباق تسلح بين دول أوروبا يقوى من ساعد احتكارات السلاح العملاقة ويضاعف من نفوذها السياسى. علينا أن نتوقع فى الوقت نفسه زيادة فى وتيرة صعود التيارات والزعامات الشعبوية فى أوروبا.
• • •
ثالثا: درس للصين. لفت نظرى ونظر كثيرين التغيرات فى السلوك السياسى للصين مرتين على الأقل فى الأسابيع الأخيرة، كانت المرة الأولى عندما قرأت بعناية ما تعمدت الصين النص عليه فى وثيقة البيان الصادر بمناسبة اجتماع الرئيسين الروسى والصينى فى بكين عشية إطلاق شرارة أنشطة الأوليمبياد الشتوى. وكانت المرة الثانية عندما امتنعت الصين عن التصويت على قرار فى مجلس الأمن يدين تصرفات روسيا وغزوها لأوكرانيا. لم تستخدم الصين حق النقض. حدث هذا على الرغم من موقفها الناعم المؤيد بتحفظ لروسيا خلال الساعات الأولى من الغزو. يجب أن أذكر هنا أنها ربما أصابها بعض الارتباك تحت ضغط التطورات فى أوكرانيا وأوروبا بشكل خاص. إن صح وجود ارتباك فلن يطول لأن الصين معرضة أكثر من أى وقت مضى لاتخاذ قرارات حاسمة تتعلق بمستقبلها وربما بمستقبل العالم كله، بكلمات أخرى الصين فى ظروف عالم اليوم لا تملك رفاهية الارتباك والتردد فى المواقف.
قد تثبت السنوات القادمة أن الصين خرجت المستفيد الأكبر من غزو روسيا لأوكرانيا. لا شك فى أن تطورات الغزو كانت من نواحٍ متعددة درسا للصين خلال تجارب صعودها إلى القمة الدولية منفردة أو مشاركة. لا مهرب للمحلل السياسى من انحيازه لفكرة الشبه بين أوروبا من ناحية وجنوب شرقى آسيا من ناحية أخرى فى علاقتيهما بالقوة الكبيرة الرابضة فى الجوار القريب، روسيا بالنسبة لأوروبا والصين بالنسبة لجنوب شرقى آسيا. لا أظن أنه يهم قادة الصين كثيرا أو قليلا أن تصعد روسيا من غياهب الإنكار أو الإهمال الغربى إلى موقع قطب دولى ثانٍ أو ثالث فالمهم أن لا تنافسها فى صعودها للموقع الأول الذى تصبو إلى احتلاله ولو بعد حين. وأظن أن روسيا بتصرفها تجاه أوكرانيا خاصة والعالم الخارجى برد فعله المتأخر والمتردد والضعيف كلاهما منحا الصين رخصة مهمة يمكن أن تستخدمها عندما تقرر استعادة تايوان إلى الوطن الأم تاريخيا وقوميا. يمكن أيضا أن تتعظ منها كدرس لعدم الانجرار وراء الأساليب الأمريكية التى «جرجرت» روسيا إلى فخ الأزمة فى أوكرانيا.
الثابت الوحيد والمؤكد فى واقع العلاقات الدولية هو أن الدول العظمى، سواء كانت أقطابا فاعلين أو أقطابا صاعدين أو أقطابا عائدين، لم تتقاتل مباشرة حتى فى أشد حالات التوتر أو فى أخطر الأزمات. لم تتقاتل روسيا وأمريكا أثناء الحرب الكورية فى عقد الخمسينيات، وأشك أن الصين لن تتدخل الآن أو فى المستقبل لو تكررت الحرب الكورية بطرفيها الكوريين والولايات المتحدة. وقتها لم تكن الصين قطبا يحسب له حساب. الآن الصين قطب صاعد ولن تعطى منافسيها فرصة لزجها فى حرب تعطل صعودها. لن يخطئ الرئيس شى خطأ الرئيس بوتين. لم يتقاتل القطبان الدوليان، الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، عندما نشبت أول أزمة شديدة بينهما حول بناء حائط برلين أو عندما جربت روسيا إقامة حائط صواريخ فى كوبا على بعد أميال معدودة من ساحل فلوريدا أو عندما دخلت القوات الأمريكية أفغانستان أو قبلها خلال حرب الوكالة التى شنتها أمريكا ضد القوات السوفييتية المنسحبة منها. وأخيرا لم يتقاتلا حتى الآن على الأقل من يوم بدأ فيه غزو روسيا لأوكرانيا، وأظن أنهما لن يتقاتلا حتى يوم يخرج فيه أحدهما أو كلاهما من سباق القطبية.
يجب ألا نغفل عن حقيقة مهمة وهى أن روسيا موجودة الآن فى الشرق الأوسط وبخاصة فى قلبه. روسيا، سواء خرجت من هجمتها الجارية حاليا أضعف قليلا أو خرجت أقوى قليلا، لن تتخلى عن مواقع انتشارها فى الشرق الأوسط بعد أن صارت هذه المواقع مصادر قوة معتبرة للسياسة الخارجية الروسية. الواضح أن هذه المواقع لم تمس بالضرر نتيجة أحداث الغزو الروسى لأوكرانيا بل على العكس بثت تطورات الغزو روحا جديدة فى بعض دول المنطقة مثل إسرائيل وتركيا اللتين ذهبتا بعيدا فى تصورهما إمكان أن تلعبا أدوارا فى لعبة لعلها من أخطر ألعاب الحرب والسلم فى العصر الحديث.
• • •
رابعا، عالمنا النامى: نخطئ لو سايرنا البعض من أقراننا فى العالم النامى وبخاصة فى الشرق الأوسط ورحنا «نكنس» غضب شعوبنا على أمريكا والغرب ونخفيه تحت السجادة. حدث خلال هذه الأيام الأخيرة الكئيبة أن تأكدت شعوب كثيرة ملونة بشرتها بلون غير الأبيض أن الصراع المرير الناشب منذ قرون بين أصحاب البشرة البيضاء وأصحاب البشرة غير البيضاء يهدد بالانفجار مجددا فى اللحظة التى يتوحد فيها بيض الوجوه تحت قيادة من بنى جلدتها. أخشى ما أخشاه، أنا وكثيرون فى العالم النامى، أن تفلح السياسة الأمريكية الساعية حاليا لتحجيم روسيا وإعادتها إلى الموقع الذى رسمته لها فى عهد الرئيس يلتسين، عندئذ تخلو الساحة تماما من قوة بيضاء تنافس أمريكا فتتفرغ هذه الأخيرة لفرض هيمنتها كاملة على البشر كافة وفى مقدمتهم الصين باعتبارها قوة غير بيضاء مرشحة لقيادة شعوب العالم الملون ضد هيمنة الرجل الأبيض. لا شك أن وجود أقطاب منافسة من نفس اللون يخفف بعض الشيء من وقع الصراع إن احتد مجددا أو انفجر. المثال البارز أمامنا المعاملة التى يلقاها اللاجئون من أوكرانيا فى بلاد أوروبية سكانها بيض البشرة مقارنة بما يلقاه لاجئون لجأوا من قبل من أفريقيا والشرق الأوسط وأواسط آسيا أو وصلوا حديثا جدا فى ركاب لاجئين بيض من أوكرانيا وغيرها. أنظر أيضا وأقرأ وأتمعن فى مواقف واتجاهات شعوب فى أفريقيا وآسيا ومعظم أمريكا الوسطى والجنوبية تجاه التطورات الأخيرة فى الأزمة الأوكرانية وحملة أمريكا لحشد الرفض للتدخل الروسى فى شئون شعب آخر كما لو كانت أغلب دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة لم تمارس عنفا أشد ومعاملة أسوأ خلال جميع مراحل استعمار الرجل الأبيض لثروات وأراضى وشعوب العالم غير الأبيض. بعض هذه الدول وشركاتها لا تزال تمارس هيمنتها بأساليب مختلفة وتحت عناوين أحدث.
• • •
حتى الآن وعلى ضوء ما وقع ويقع لأوكرانيا، وعلى ضوء ما تسببت فيه بإرادتها الحرة أو تحت ضغط وغواية إرادة خارجية، لا سبيل أمامنا لتوقع عالم أفضل فى قريب الأيام إلا بتغيير جذرى فى هيكل النظام الدولى القائم بما يسمح بصياغة عقد عالمى جديد يعتمد العدالة والمساواة بين كل البشر أساسا له وعقيدة. لا بد من نهاية لعصر الحروب والأزمات حتى لو كانت حروبا بين البيض بعضهم البعض. قرأنا خلال الأيام الأخيرة، حتى الملل، عشرات أو قل مئات التعليقات فى أمريكا وأوروبا تتحدث عن الحروب الأوروبية على امتداد قرون والحربين العالميتين وعن أزمات بين الغرب والسوفييت والروس. ليس من تعليقات كثيرة تذكرت حروب الاستعمار الغربى فى الهند والصين وأفريقيا ثم أزماته مع العرب والهنود الحمر، باعتبار أن حروب البيض مع غير البيض لا تحسب فغير البيض شعوب غير متحضرة. غزو الإسرائيليين المستمر بلا هوادة لفلسطين غير محسوب فى سجلات حروب البيض وكثير من عمليات الإبادة لغير اليهود لا يسجلها تاريخ الحضارة.. أوكرانيا، كم من تاريخ منسى وحاضر لم يرصد عدنا بفضل أزمتك ننبش التراب عنه ومن حوله، لنكتشف هول كارثة تتجاوز عذاباتها فى قسوتها المتاعب التى أصابت قادتك وشعبك.
الاقتباس
أخشى ما أخشاه، أنا وكثيرون فى العالم النامى، أن تفلح السياسة الأمريكية الساعية حاليا لتحجيم روسيا وإعادتها إلى الموقع الذى رسمته لها فى عهد الرئيس يلتسين، عندئذ تخلو الساحة تماما من قوة بيضاء تنافس أمريكا فتتفرغ هذه الأخيرة لفرض هيمنتها كاملة على البشر كافة.