فى مقال سابق لى بعنوان «مفتاح أزمة المياه فى إثيوبيا.. البرسيم» تطرقت لعدة حقائق مؤلمة لكن مثبتة: أن بعض الدول العربية، عبارة عن لاعبين أساسيين فى مشروع سد النهضة، نظرا للأراضى الكثيرة الذين يزرعونها فى إثيوبيا الآن. أما اليوم، فأكتب هذا المقال كى أسرد التاريخ المخفى لقضية سد النهضة وعلاقته بأمريكا وإسرائيل وبعض دول الخليج. ولكن نبدأ هنا فى مصر، فى محافظة الأقصر مع مزارع باسم «سامى»، أحد المستفيدين من مشروع الدعم الزراعى بحسب صفحة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على موقع فيسبوك، حيث تعمل الوكالة فى مصر عبر مشروع «إطعام المستقبل (feed the future)» على دعم المزارعين لتحسين جودة وقيمة محاصيلهم فى السوق من خلال توفير تكنولوجيا «ما بعد الحصاد» (post harvest technology) وعبر تدعيم ممارسات دولية جيدة مثل تنظيف وتعبئة وتخزين المحاصيل. يقول موقع الوكالة الأمريكية للتنمية أنه تم استثمار أكثر من 2.5 مليون دولار فى مصر بموجب هذا المشروع الذى نتج عنه مبيعات زراعية بقيمة أكثر من 28 مليون دولار أمريكى. يتضح أن برنامج دعم «سامى» جزء من استراتيجية أمن غذائى عالمية تم تخصيص لها أكثر من 4 مليارات دولار فى 20102013، هدفه توفير سوق للمنتجات الزراعية على مستوى العالم عبر ربط السوق الزراعية الأمريكية ببقية الدول الزراعية المنتجة. بمعنى، أن هذا البرنامج يهدف لتعزيز إمكانية المزارعين حول العالم من أجل أن يضاعف الاستثمارات الأمريكية فى هذا المجال من خلال ربطهم بقطاع الصناعة الزراعية فى أمريكا وما تمتلكه من تكنولوجيا ما بعد المحاصيل. فأولئك المزارعون مثل «سامى» فى الأقصر حصلوا على منح ودعم عينى لشراء وتركيب نظام رى مواسير «مرنة» أى Polypipe irrigation system، من أجل الحفاظ على الراسب من المياه ولكن أيضا من أجل ربط مزارعى مصر للسوق الأمريكية المُنتج لهذه المواسير. فبعيدا عن مصر، تأتى إثيوبيا من ضمن الشركاء الأساسيين فى البرنامج العالمى لإطعام المستقبل، حيث استثمرت الولاياتالمتحدة 4 مليارات دولار دعم فى آخر أربع سنين فى إثيوبيا. تأتى جهود الولاياتالمتحدة لضبط قطاع الزراعة فى إثيوبيا على أمل تحويل البلد لقاطرة تنمية للقارة كلها. ففى 11 سنة فقط حققت إثيوبيا نتائج مذهلة فى خفض معدل الفقر من 56٪ فى 2000 إلى 30٪ فى 2011 نتيجة استثماراتها فى قطاع الزراعة. كما أن هذه الخطة جزء من مبادرة لمحو الجوع فى المناطق التى تعانى من جفاف شديد فى منطقة بنى شنقول جوميز بجوار سد النهضة، حيث يقوم هذا المشروع بالأساس على تدعيم حضانات بذور وتقاوٍ لمحاصيل مختلفة مثل الأفوكادو والحمضيات والفواكه التى تحتاج بعد زراعتها تطعيمها، مما يتطلب استيراد زرع نابت ثم زراعته وإعادة تدوير بذوره، ولكن من أين تأتى البذور؟ تأتى فى الواقع من معامل تابعة لشركات أمريكية، حيث تقوم عدة شركات زراعية كبرى باستخدام تكنولوجيا الهندسة الوراثية لتغيير جينات المحاصيل من أجل تعظيم حجم المحصول، أو إنتاجيته فى بيئة مغايرة أو، فى بعض الحالات، طرح ثمار بلا بذور، مما يتطلب المزيد من التقاوى من الشركة المنتجة. وهو الأمر الذى يدعو للمزيد من القلق حيال تعاون مصر فى هذه المبادرات، حيث إن هناك دراسات تؤكد أن العلماء الذين يشاركون فى البرنامج الأمريكى «إطعام المستقبل» تعرضوا لمساءلة من قبل حكومتهم، خوفا من أن يتم غرق السوق المحلية للبذور والتقاوى ببذور معدلة لها آثار صحية مضرة. ••• ولكن ليست الولاياتالمتحدة فحسب من تعمل مع إثيوبيا فى مجال البذور والتقاوى، لعل أهم مشروع دعم حضانات لفواكه ومحاصيل استراتيجية هو مشروع ترى (Trilateral Resilience Enhancement in Ethiopian Lowlands) الممول من قبل الوكالة الألمانية الدولية للتنمية (GIZ) والوكالة الإسرائيلية الدولية للتنمية (MASHAV) فى منطقة الأفار التى تقع فى شمال شرق إثيوبيا على حدود مع جيبوتى، نافذة إثيوبيا للعالم الخارجى التى تُصدر من خلالها. بالرغم من الحجم الصغير لهذا المشروع، أى مليون يورو، إلا وأن مكاسبه أكبر بكثير، تعمل إسرائيل من خلال هذا المشروع على نقل تجربتها الزراعية فى إدارة المياه فى الأراضى الإثيوبية بقوة لإعادة استصلاح أراضٍ تعانى من جفاف. يختلف مشروع ترى (TREE) كل الاختلاف عن مشروع حكومة التيجراى لاستصلاح الأراضى. تعتبر منطقة التيجراى التى يسكن فيها نحو 4.3 مليون نسمة منطقة جافة (Dryland) مقابل الأراضى الإثيوبية المنخفضة التى يصل إليها مياه (lowlands)، مما يعنى أن سكانها معرضون لمجاعات لا سيما بعد معاناتهم من التهميش الممنهج من قبل الحكومة الإثيوبية الحالية التى نزعت أراضيهم القليلة الخصبة فى منطقة الولقايت. ولكن بالرغم من ذلك حققت حكومة التيجراى نجاحا كبيرا فى عمليات الاستصلاح الزراعى حتى فازت بالجائزة الذهبية لأفضل سياسة للمستقبل Gold Future Policy Award فى عام 2017، وهى جائزة مُنظمة من المجلس العالمى للمستقبل ومعاهدة الأممالمتحدة لمكافحة التصحر. فازت حكومة التيجراى عن المشروع الضخم الذى بدأته فى 1991 من أجل استصلاح أراضيها وزراعتها. وبالرغم من عدم دخول مشروع ترى (TREE) نطاق محافظة التيجراى، إلا وأنه لا يسعنا كقراء ألا نقارن الفارق بين جهود حكومة التيجراى، حيث أُلزم مواطنوها بالتطوع 20 يوما فى السنة لنقل تربة واستصلاح أرض بالقرب منهم، مقابل عمل وكالات التنمية الأجنبية على إدخال محاصيل ومعدات زراعية أجنبية وتطوع مواطنين إسرائيليين فى أراضى إثيوبيا كجزء من برنامج تبادل ثقافى، وكل ذلك من أجل زراعة محاصيل تحتاجها هذه الدولة ولكن لا تفضل زراعتها على أراضيها كى لا تخل بميزان مواردها المائية. وهو ما يقودنا لآخر محطة لنا فى أراضى مشروع توشكى فى محافظة أسوان عندما حاولت دول الخليج استغلال هذه الأراضى قبل هجرتها لإثيوبيا. بالرغم من الاستثمارات الباهظة التى قامت بها الدولة من أجل مد المياه لمنطقة توشكى، لم تقم الشركات التى تعاقدت على أراضى المشروع بالوفاء بالتزاماتها التعاقدية. وبالتحديد، رغم زعمها استخدام أراضى توشكى لزراعة محاصيل استراتيجية مثل القمح والذرة، بعض هذه الشركات الخليجية مثل شركة المملكة للتنمية الزراعية (KADCO) الخليجية، التى خُصص لها 100 ألف فدان، بإبرام عدة اتفاقيات لتوريد محاصيل فاكهة لأوروبا وأمريكا مثل العنب والتمر المجدول إلى جانب السلعة الأساسية التى تحتاجها دول الخليج لإطعام مواشيها: البرسيم الحجازى. ففى مايو من عام 2000 قامت شركة المملكة للتنمية الزراعية بإبرام اتفاقية مع أحد أكبر بائعى الفواكه فى كاليفورنيا: سان ورلد (Sun World) من أجل زراعة فواكه وخضراوات لتصديرها للولايات المتحدة. ولكن بعد 2011 أعلنت الشركة تلقائيا تنازلها عن أغلب ما لم يستصلح ويستزرع على نحو 75٪ من الأرض كلها، تاركةً لنفسها 25 ألف فدان فقط. ولم يحدث هذا فحسب، ففى التاسع من فبراير فى عام 2011 أصدرت الجمعية العمومية لقسم الفتوى والتشريع فتوى تشير لشبهة بطلان عقد تخصيص أرض فى توشكى لشركة الظاهرة الخليجية أيضا نتيجة فروق كبيرة فى احتساب سعر بيع الأرض. وسرعان ما رفُعت قضية بعدها تطالب ببطلان عقد تخصيص المائة فدان بتوشكى أسوة بقضية أرض توشكى فى عام 2010. بعيدا عن القضايا التى أظهرت أن العقد أتاح للشركتين حق استيراد بذور وتقاوى مغايرة، انقلبت الأمور عندما تم سحب أراضى هذه الشركات طبقا لقرار رقم 337 لسنة 2019 ثم قرار621 لسنة 2020 الذى أعاد تخصيص هذه الأراضى لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بعد أن استحوذ على شركة المملكة للتنمية الزراعية فى عام 2017. ••• إذن الدرس المستفاد هو أن تصدير المياه فى صورة محاصيل معينة جزء من خطة طويلة المدى لإطعام بعض الدول الغنية ورفع نصيبها من المياه. الخطير فى هذه الخطة هو تصدير ومنح دعم وخبرات زراعية فى صورة تقاوى وبذور دخيلة على بيئة وادى النيل ذات إنتاجية أعلى، لا سيما المحاصيل الاستوائية مثل الأفوكادو الذى يسمى بالذهب الأخضر لارتفاع ثمنه، ولكن هذه المحاصيل تجلب العديد من المخاطر الصحية والأمنية لما تشكله من علاقة تبعية بين أولئك الدول فى الشمال والدول الفقيرة التى تفقد السيطرة على سيادتها الغذائية، فمثلما كانت هناك خطة لتسخير مياه النيل فى مصر لصالح دول بعينها قبل عام 2011، فهناك خطة مشابهة فى إثيوبيا، ولكن ما خُفى فى هذا المشروع كان أعظم.