قالت مجلة تايم الأمريكية ذات يوم عن مشجعى كرة القدم: «تراهم يتدفقون على الملاعب فى جماعات، وفى مواكب صاخبة، ويتزاحمون ويتضاحكون ويتظاهرون، ويتندرون ويتوعدون بعضهم.. تراهم يتدفقون بسيارات مشحونة، وأتوبيسات ضخمة، وقطارات مكدسة، وطائرات خاصة.. وكل شىء قبل المباراة يصاب بالشلل إلا الملعب فهو وحده يصبح فيلما من أفلام فيلينى مليئا بالحياة والحركة والانفعال والضوضاء، مليئا بالغضب والحب والعرق والخوف!». مشجعو وعشاق كرة القدم يتوجهون إلى الملعب بألوان وقمصان الفريق، ويحملون الطبول والدفوف، ويشجعون ويهتفون ويغنون بحماس أثناء اللعب وبصوت كهزيم الرعد. ومشجع كرة القدم يرى فريقه فقط ولا يرى أى فريق آخر. يرى فريقه يلعب وحده ويرى الحكم له وحده، وهو يرى أن ناديه هو الأول، حتى لو كان الأخير، ويراه البطل السابق والبطل القادم والبطل الوحيد، وهو يرى بطولات خصومه غير حقيقية، وكلها تحققت بالتحكيم وبالحكام.. ومشجع كرة القدم يرى فريقه دائما على حق بدون وجه حق، ويراه مظلوما مجبونا مغبونا مهما نال من حقوق ويراه دائما منتصرا حتى لو كان مهزوما ومقتولا! هذا عن مشجع كرة القدم بصفة عامة.. لكن ماذا عن مشجعنا وعن تشجيعه. هل تغيرت صورته؟ فى عشر سنوات تغيرت أساليب جماهير الكرة المصرية فى مؤازرة فرقها، فظهرت راوبط المشجعين، ومجموعات الألتراس، التى عرفتها الكرة الإيطالية فى حقبة الستينيات. وانقرض «لقب كبير المشجعين»، وعلت أصوات جماعات المشجعين.. وباتت الألوان فى المدرجات علامة، وأمسكت الأيدى بالإعلام، وتنوعت أحجامها، وأصبح كل جمهور يحتفى بفريقه لحظة دخوله أرض الملعب، فيما يسمى الدخله (بفتح الدال).. وبهتافات وأغنيات جديدة.. وباتت مباريات المنتخبات مظاهرات وطنية تجسد حالة الإنتماء وتشعل الحماس، وتثرى أصحاب الأعلام، وشأن كل شىء ظهر أيضا العلم المصرى المصنوع فى الصين وأصبح العلم بطلا.. وشأن صيحات المساواة بين الرجل والمرأة، غيرت الوجوه الجميلة فى كأس الأمم الأفريقية 2006 من ملامح مدرجات الملعب المصرى. تغيرت أساليب جماهير كرة القدم فى مؤازرة فرقها.. وفى الوقت نفسه أدارت تلك الجماهير ظهرها لمباريات الدورى، وتجلت فى السنوات الأخيرة ظاهرة المدرجات الخاوية، والملاعب الخالية خاصة فى مباريات أكبر فريقين، وهما الأهلى والزمالك.. وزاد أيضا الغضب والصخب، والاحتجاج.. وهو يطغى أحيانا على صوت المتعة والهتاف. ترى ما الفارق بين جماهير كرة القدم فى أوروبا وبين جماهير كرة القدم فى مصر؟ يرى المشجع الأوروبى الملعب ساحة للخروج عن النظام والقانون والقيود، لأن كل ما يحيط به، فى الشارع والمكتب والمنزل يخضع للنظام، والقانون والقيود.. ويرى المشجع المصرى الملعب ساحة للتعبير من سخطه لأنه يعانى من غياب النظام والقانون والقواعد فى الشارع والمكتب والمنزل. هذا هو التفسير العاجل للفارق بين جماهير كرة القدم فى أوروبا وبين جماهير كرة القدم فى مصر.. لكن هناك تفسير آخر، وهو ملعب كرة القدم بالنسبة للمشجع المصرى يساوى «حديقة هايد بارك» فى لندن.. فهو ساحة الحرية، بكل ما فى الحرية من متعة وسعادة وانطلاق، وبكل ما فيها أيضا من تجاوزات تصل إلى مستوى امتزاج الحرية بالفوضى.. الفارق الثالث بين جماهير كرة القدم هناك وهنا.. أنهم هناك يلعبون ويمرحون ويستمتعون.. وتظل ملاعبهم معبدا للترويح، ولقضاء 90 دقيقة من السعادة والبهجة يبدأها المواطن قبل ضربة البداية بلحظات بما يملكه من بطاقة أو تذكرة.. بينما الوضع هنا يختلف جدا.. فلاعبنا يمارس اللعبة أحيانا، وهو شديد الغضب ومتألم من ممارستها.. وبالعدوى ينتقل الشعور، فيتفرج المشجع بغضب وألم هو الآخر.. وتبدو هتافاته وصرخاته فى المدرجات طلبا للنجدة والإغاثة أكثر منها تشجيعا وتحميسا لفريقه. وهو يعانى فى الحصول على تذكرة. ويعانى فى الوصول إلى أبواب الملعب بتذكرته. ويعانى حين يدخل الملعب بعد الفوز بقبلة من حصان، أو بضربة ساق من هذا الحصان، وأحيانا يسعفه الحظ فيحظى بضربة عصا «تهش البشر.. كما يهش البشر الناموس»، ويعانى مشجع الكرة المصرى بسبب الزحام والتكدس على الأبواب، ويعانى بسبب التعامل معه باعتباره جملا يريد المرور من ثقب إبرة، كأن هناك من يراهن على تحقيق تلك المعجزة.. ثم يعانى المشجع المصرى فى ملاعبنا كلها من الإسكندرية إلى الجونة، بقائمة الممنوعات المنوعة. وعندما يسحب منه الماء والغذاء على الأبواب، يدخل الملعب ولا يجد الماء ولا يجد الغذاء، وما يجده يحصل عليه بالأسعار السياحية باعتباره سائحا فى رحاب كرة القدم؟! ويبدو أن الرهان الأكبر هو اختبار مدى قدرة هذا المشجع على التحمل والصبر، فهو مطالب بحمل تذكرة، وبطاقة دعوة، وبطاقة رقم قومى، وإيصال كهرباء، ولو كان محظوظا فسوف يصل إلى موقع مقعده، وسيكون عظيم الحظ لو نجح فى الجلوس على هذا المقعد.. ومشجع كرة القدم الذى أصبح رمزا للشجاعة والإقدام.. يرى الإهانة والهوان فى ساحة المتعة والترويح.. فهو يحصل على التذكرة لو كان مصارعا. ويشتريها غالبا من خيمة بالية رديئة، ويساق فى طوابير وسط أسوار من حديد، وسط رجال مسلحين بالهراوات، كأنه يساق إلى سجن أو إلى الأسر.. وصخب لا يصدق يتخلله أصوات ميكرفونات تمتزج فيها الأغانى الوطنية، و«يا أحلى اسم فى الوجود»، المخلوطة بأصوات المنظمين، ورجال الأمن وصهيل الخيل وحركة سنابكها التى تثير الغبار، تضرب السيقان، وتسمع حشرجة مذيع وسط هذا الصخب وهو يشكر الجميع على النظام والجمال والعشب والأخضر الذى يزين أرضية الملعب، كأنها بدعة.. وينتظر الجمهور لحظة بداية المباراة لعله ينسى معها ما شهده من معاناة فى الدخول.. وتشده أصوات الأبواب التى توصد خلفه. عقب نهاية المباراة يخرج المشجع المصرى من المباراة كما دخلها، يخرج حاملا مشاعر الحرية والتحرر من الأسر، ويتمتم بأنه لن يعود إلى مشاهدة مباريات الكرة مرة أخرى فى الملعب.. ولكنه يعود فور يناديه الوطن والمنتخب الفريق.. يعود وهو يحلم بيوم يتحرر فيه من الأسر!