يقدم أبوالغار كتابا موثقا بلغة عصرية سلسة ينظر للماضى كضرورة لرسم خريطة المستقبل فى عمل مرجعى ممتع بعنوان «يهود مصر فى القرن العشرين كيف عاشوا ولماذا خرجوا» الصادر عن دار الشروق، قدم الدكتور محمد أبوالغار فى كتاب غير مسبوق عرضا متزنا توثيقيا بلا صبغة سياسية منحازة لتاريخ يهود مصر فى القرن العشرين، وهى الفترة التى كان لها ابلغ الأثر فى حياة يهود مصر. لليهود وجود لا ينكر فى مصر القديمة منذ عصر الدولة الحديثة (1550 1069 ق.م.) قبل أن يتأسس لهم كيان سياسى فى إطار التوسعات الإمبريالية للآشوريين والفرس، وما تلى ذلك من تبعية الاحتلال الرومانى، وما صاحبه من قلاقل سياسية ومقاومة عنيفة انتهت بتدمير الدولة وتشتيت اليهود ( 70 ميلادي) فى بقاع الأرض. لم تنمحى ذكرى هذا التشتيت ومآسيه الذى سبقه التشتيت البابلى (587 ق.م) ومن قبله التشتيت الأشورى (740 722 ق.م ) من ذاكرة اليهود، خاصة مع توالى كوارث التشتيت من الأندلس وأوكرانياوألمانيا النازية، وبالتحديد لأن وجودهم كلاجئين فى بلدان أخرى لم يحظ بالترحيب والقبول، كما هو الحال مع كل اللاجئين فى أغلب الأحوال. ولذلك وتحت الأوضاع السيئة للمُهجَّرين وعدم القبول والتهميش لجأ معظمهم إلى التأكيد على هويتهم بقدر ما كانت مرتبطة بالشعائر والتقاليد، والتكافل، والسعى لتحسين أحوالهم، والعمل فى كل يمكن أن يعينهم على العيش من وظائف متدنية لا تساهم فى تحسين صورتهم لدى الغير، كما لجأ البعض إلى الأخذ بسبل التعليم والتفوق فى الوظائف الحسابية والتجارية والمالية المتاحة مما سمح لبعضهم بالتفوق والثراء، الأمر الذى يؤدى بدوره إلى النقمة عليهم من أهل البلاد من الفقراء والمتعطلين، خاصة فى وقت الأزمات الاقتصادية والسياسية وهو الأمر الذى استغله أدولف هتلر ليجعل منهم كبش الفداء للمشاكل الاقتصادية التى تعرضت لها ألمانيا حينذاك. لجأ العديد من اليهود إلى مصر فى إثر سقوط الأندلس (1429 م)، كما جذب ازدهار التجار فى مصر فى عصور المماليك كثيرا من يهود القُسطنطينيَّة وبغداد ودمشق وغيرها ليصبح لهم نفوذ كبير على النشاط المصرفى والأعمال المالية. وكانت لهم أحياء خاصة مثل حارة اليهود فى القاهرة التى تعود إلى العصر الفاطمى. وفى القرن التاسع عشر سمحت الفرص الاقتصادية للأجانب من كل الجنسيات، ومنهم الأرمن والايطاليون واليونانيون واليهود، الهجرة إلى مصر بعد افتتاح قناة السويس والانفتاح على أوروبا فى عصر الخديوى اسماعيل. وككل المهاجرين نجح بعض اليهود، كغيرهم، من خلال التعليم والاهتمام باللغات الأجنبية، والتجارة والأنشطة المالية فى تحقيق الثروة والتقرب للعائلة الملكية والاختلاط بعلية القوم والمشاركة فى الحياة السياسية، كما وجد البسطاء منهم قبولا كريما من الشعب المصرى، ولكن المشاكل بدأت مع الحرب العالمية الأولى وبالأخص مع الثورة الروسية فى 1917 ومخططات الإبادة فى أوكرانيا حتى 1921 وكان لذلك ومن بعده مخططات الإبادة فى ألمانيا النازية تأثير هام على البدء فى تحقيق مشروع تيودور هرتزل (18041904) الصهيونى لتأسيس دولة يهودية فى الأراضى المقدسة. ويشير محمد أبوالغار إلى أن السلطات العثمانية بدأت فى ترحيل خمسة آلاف يهودى إلى مصر من اليهود الروس والبولنديين من فلسطين فى 1915 وكان هؤلاء اليهود صهاينة يؤمنون بالقومية اليهودية ويتكلمون اللغة العبرية التى تم إعادة إحيائها فى 1881. وتمثل الصهيونية تأثير ظهور القومية الأوروبية، المضادة لأفكار عصر النهضة الإنسانوية، التى أدت إلى عقود من الاستعمار، والعنصرية، وحروب عالمية ومحلية لم تنتهِ بعد. لم يرحب غالبية يهود مصر بالصهيونية أو الهجرة إلى إسرائيل بعد تأسيسها فى 1948. ولكن الحروب فى 1948 1956 1967، واستقطاب إسرائيل قلة من يهود مصر للصهيونية أدى إلى ردود الفعل ضخمتها حركة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة قبل ثورة 1952 ساهم فى خروج بعض اليهود من مصر قبل 1952، ولكن أعداد النازحين ازدادت بعد 1956 نتيجة لما سببته الحرب من ناحية، ومن ناحية أخرى الإجراءات الاقتصادية والتأميمات ومصادرة الأموال والسياسات الأمنية التى اتخذها الرئيس جمال عبدالناصر. كما خرج عدد كبير من يهود مصر فى الستينيات مع هجرة العديد من الأجانب، والمصريين الخارج إلى اوروبا وأمريكا بحثا عن فرص أحسن بالمقارنة بالظروف الاقتصادية المحلية. يقدم أبوالغار، فى هذا الكتاب، شرحا وافيا وسردا شيقا لما قمنا بتلخيصه هنا، كما أنه يُمتعنا بعرض حميمى لذكريات يهود مصر فى المهجر، كما أنه يقدم كتابا موثقا بلغة عصرية سلسة، للمهتمين ومنهجًا تاريخيًا معاصرا، يلتزم فيه بالوثائق التى يعززها شهادات من الواقع التاريخى المعاش بكل ما فيه من مشاعر وعواطف وانفعالات. يأتى هذا الكتاب المتميز ليراجع كثيرا من مفاهيمهم عن يهود مصر 1967، ولينبهنا إلى إعادة النظر فى الماضى كضرورة لرسم خريطة المستقبل. وللأسف تؤدى السياسات الاستيطانية للإسرائيليين، كدولة يهودية، واضطهادهم للفلسطينيين منذ ما يزيد على 70 عاما إلى وضع ملتبس يصعب فيه للبعض التخلص من الخلط بين اليهود والإسرائيليين. كما انه من المستغرب ألا يتفهم الإسرائيليون وضع اللاجئين الفلسطينيين وهم من ذاق مرارة وقسوة اللجوء عبر التاريخ، وقد جاءتهم الفرصة التاريخية ليقوموا بإعلاء قيم الديانة اليهودية التى تدعو فى العهد الذى وثقوه مع الله و mitzvot إلى العدل والصدقة والعطف والرحمة للجميع وقدسية الحياة البشرية، والعمل على شفاء العالم من علله. * أستاذ جامعى واستشارى سابق باليونسكو