«الجَمَال يحيط بنا فى كل مكان، كل ما يَتَعين عَليك فِعلَه هو النظر والتدبر والبحث عنه من حولك دائما. الجمال يتسم بالبساطة والهدوء، وهو فى ذلك عكس القبح الذى يفرض وجوده علينا بصَخَبه والفوضى، حتى نتخيل أنه وحده يطغى بثقله على أيامنا». هكذا أخبرنى رفيق درب أبى فى حديث حاول فيه بحكمته احتواء تساؤلات الفكر التى كانت تجول فى رأسى المراهق عن قيم الحق والعدل ومعانى الجمال وماهية القبح. *** قليلة كانت حواراتنا إذ كنا نجتمع دوما فى مناسبات عائلية طغت عليها حكايات الكبار وقصصهم المضحكة عن مغامرات الشباب. كنا نحن الصغار نستمع بانبهار ونغبطهم على جمال صداقتهم وذكرياتهم. احتلت كلمات صديق أبى مكانة فى قلبى أدركت عمقها بمرور الأيام إذ صرت أبحث عن الجمال من حولى أينما حَلَلَت. *** فرضت على اعتبارات الدراسة والعمل سُكنى بيوت عدة، اشتركت جميعها، بالرغم من اختلافها، فى حرصى على البحث عن الجمال بها. افترضت الأبدية فى كل منزل سكنته على الرغم من معرفتى المسبقة أنى سأعيش فيه بصفة مؤقتة. وضعت فى كل منها بعضا من روحى وصورا فوتوغرافية وتذكارات من أماكنى المفضلة وورودا ونباتات أتابعها فأحزن لذبولها وأسعد مع ازدهارها وكأنى أرسم عالما جميلا بلا نهاية. *** فى كل مرة عندما يأتى موعد رحيلى يأبى هذا البعض مصاحبتى ويؤثر البقاء فيتركنى وأرحل بدونه. كل هذه السنوات فهمت حكمة الصديق وكأنى على صناعة الجمال أو البحث عنه أينما ذهبت إلا أن زيارة لمنزلى القديم جعلتنى أدرك لب حكمته: الجمال حولنا دائما، كل ما علينا أن نفتح أعيننا ونراه. *** عرفتها منذ طفولتى. كانت من أقرب الجيران لقلب أمى فانتقل حبها لأسرتنا. أتذكر المشاهد اليومية فأرى خطواتها النشيطة فى الصباح وتحيطها هالة غامرة من السعادة مهما كانت الظروف. بالطبع فهى تدرس الموسيقى والبيانو. منزلها، فى الطابق الأرضى، كان دوما مبهرا تنبعث منه أصوات البهجة خاصة عندما تستضيف عائلتها الكبيرة أو تحتفل بنجاح طلابها المبدعين. *** تمتلك فى هذا المنزل بيانو تدرك بمجرد أن تراه أنه متفرد ورائع، تماما كصاحبته. استمعت لأصوات آلات بيانو كثيرة اختلفت حسب نوع خشب الصندوق وبلد الصنع. بعضها ثقيل، وبعضها رخيم، وآخر مكتوم أو بارد، ونوع منضبط يؤدى عمله على أكمل وجه وباحتراف. لا زلت أجد صعوبة فى تقبل البيانو الإلكترونى الحديث! استمعت قدر ما استمعت وانتهيت إلى أن صوت البيانو ونغماته بعض من روح صاحبه وانعكاس لمشاعره، بغض النظر عن مهارته. ولذا لا شىء يشبه البيانو الذى تملكه جارتى. صوت رنان يدخلك فى عالم آسر وساحر لا يمكنك الخروج منه إلا بانتهاء المعزوفة. *** أتذكر اللحظات الكثيرة التى أمضيتها أستمع لها وهى تعزف أجمل الألحان. كنت أشعر وأنا صغيرة بجلالة هذه اللحظات فأتحرك على أطراف أصابعى وأغلق باب البناية بهدوء شديد ثم أجلس على الدرج لأستمع لها. عاملت درج منزلنا بنفس مهابة واحترام الأوبرا إذ إن عزفها كان يدخلك فى عالم من الجمال لا تملك أمامه إلا وأن ترسم بمخيلتك أجمل المسارح وأفخمها. كنت أخاف أن أصدر أى صوت يزعج ملكة الألحان واكتسبت مع الوقت مهارة معرفة إذا ما كانت سعيدة أم لا من عزفها على البيانو. *** مضت سنوات حتى قادنى حديث معها ذات مساء لاكتشاف كنز خفى من الجمال كان دوما بجوارى دون أن أراه. حدثتنى بقلبها عن ذكرياتها. صوتها وعيناها عند الحكى يحملانك معها فتعود بك لأزمنة كان للجمال حينها محل القمة فى القلوب. حكت لى عن أسفارها وفنها وموسيقاها الذين احتضنتهم كبرى دور الأوبرا فى أوروبا الشرقية. أخبرتنى كيف كان تدرس وتعد لدراساتها العليا وترعى بيتها وحب حياتها فى أصعب اللحظات. لديها قدرة غربية على ترجمة الحب لأفعال فى كل أدوارها كفنانة وعازفة وأم وزوجة وأستاذة للموسيقى. تركتنى لبرهة ثم عادت بكتب تحوى مؤلفاتها للبيانو وأخبرتنى عندما سألتها كيف نؤلف الموسيقى أن مشاعر العازف تتطور مع مهارته بمرور الوقت فيعبر عنها بالألحان. تلتحم الأيدى والأرواح مع الأصابع اللامعة فتصير امتدادا للمشاعر وتخرج النغمات السعيدة أو الحزينة. *** انتهت زيارتى وحديثها. نظرت طويلا لها محدثة نفسى كيف لم أرَ كل هذا الجمال وقد جاورته معظم عمرى. لطالما أحببتها ولكنى لم أعِ مقدار الجمال فى داخلها. أفكر فلا أجد تفسيرا لكل حكاياتها إلا أن الحب وحده كان دافعها فى الحياة، حافظت على جذوة الحب متقدة فى قلبها، فتحورت مع أطواره واستمدت منه القوة. أناملها تحولت لعصاة الحب والجمال السحرية، تلمس البيانو فتبدع أجمل النغمات، تعد من الطعام أشهاه، تسقى أشجار حديقتها الصغيرة فتزدهر. امرأة جميلة تصنع من حولها عالما متفردا من الجمال. *** أيقنت من حديثها أن الجمال من حولنا، يتسلل للروح بلين ورفق فيترك أثرا أخاذًا فى النفس لا ندرك مداه إلا عندما ترتسم على الوجه ابتسامة تشق طرقا من السعادة وتهزم القبح. الجمال من حولنا، كل ما علينا هو أن نراه، نفتح قلوبنا وأرواحنا ونراه.