«المصريون أصحاب حضارة عظيمة».. هذه الجملة التى نسمعها كثيرا وتجسد واقعا ملموسا فى حياتنا كلما اكتشفنا أثرا جديدا أو تعمقنا فى دراسة جوانب حياة المصريين القدماء «الفراعنة»، وفى الوقت الذى يسعى فيه البعض إلى تحريم الفن والموسيقى مستغلا الموجة العاتية من الفن الهابط أو المسف والذى يقترن فى بعض الأحيان بالخروج عن إطار أخلاق المجتمع المصرى، نجد أن هناك من يبحث فى علم الموسيقى الراقية التى ابتكرها أجدادنا لتتعلمها حضارات الدنيا كلها منهم ويبذل الجهد والمال لكى يرتقى بهذا العلم والفن الذى يخاطب الروح والقلب بلغة تعشقها الأذن. التقت «أكتوبر» مع الفنان أيمن قنديل أحد افراد كتيبة الفن الراقى.. والذى حصل بأحد ألحانه على رسالة الماجستير من جامعة حلوان تحدث معنا فاختلطت كلماته بعزف العود ولمست أوتار قلوبنا فاستطاع أن ينقلنا بعيدًا عن صخب السياسة والاغانى الفاسدة.. وهنا تفاصيل الحوار. * كيف بدأ الاهتمام بدراسة الموسيقى الفرعونية فى مصر؟ ** أول من بحث فى الموسيقى الفرعونية والآلات الفرعونية هو «هانز هيكمان» ألمانى الجنسية ولد عام 1908 وتوفى عام 1968 وعاش فى مصر قرابة الخمس وعشرين عاماً بحث خلالها عن الموسيقى الفرعونية إلى أن اكتشف العود ذى الثلاثة أوتار، وبعد أن توفى ماتت الفكرة إلى أن أحياها مرة أخرى د. خيرى الملط أستاذ التربية الموسيقية بالقسم الفرعونى جامعة حلوان ومسئول الدراسات العليا، فبدأ يؤسس لقسم الموسيقى الفرعونية بالدراسات العليا وحمل هذا القسم على عاتقه وهو القسم الذى درست وحصلت فيه على درجة الماجستير. لحن بناء الأهرامات * هل وجدت صعوبات أثناء دراستك للموسيقى الفرعونية؟ ** عندما بدأت فى رسالة الماجستير طلب منى أن أقوم بعمل لحن فرعونى فتخيلت اللحن الذى كان من الممكن أن يعزفه الفراعنة أثناء بناء الهرم لكى يبثوا روح التفاؤل والعزم عند البنائين والعمال فأخبرت د. خيرى الملط بذلك فسألنى «هاتقدر؟!»، وقمت بالفعل بعمل اللحن وعزفته أمام لجنة التحكيم فنال إعجاب اللجنة وتصفيقًا حادًا من الحضور حيث استخدمت آلات عزف كلها فرعونية تضاهى التى تم اكتشافها حيث تم تصنيعها بنفس المقاييس والمواصفات الفرعونية لدرجة أن العود تم صناعته فى ألمانيا وليس فى مصر وكانت تكاليفه كبيرة جداً. * ما المقام الموسيقى الذى اعتمدت عليه أثناء تأليفك للحن «بناة الأهرام»؟ ** اخترت المقام «البيّاتى» لأنه أكثر مقام يؤثر فى نفوس المصريين وأعتقد أنه كان قريبا جداً من اللحن الحقيقى، حيث نجد فى كلامنا اليومى العادى كلمات فرعونية انتقلت على ألسنتنا منذ آلاف السنين، ولا أستبعد أن اللحن انتقل فى جيناتنا الوراثية كما انتقلت الكلمة على ألسنتنا، والآن أصبح هذا اللحن من الألحان المؤسسة ويتم عزفه فى كل الحفلات الفرعونية، فالإيقاعات هى التى تميز اللحن وتحدد إذا كان فرعونياً أم لا. * يقال إن المصريين هم أول من اكتشفوا العود فهل هذا الكلام صحيحًا؟ ** نعم.. المصريون القدماء هم أول من اكتشفوا العود حيث ظهر فى الأسرة الحديثة (1600 قبل الميلاد) أى منذ ما يقرب من 3500 سنة وكان مكونًا من ثلاثة أوتار لكنه مختلفاً قليلاً عن الشكل الذى نعرفه الآن، فقد كان رفيعاً وأطول من العود الحالى وتجويفه أصغر ويميل للاستدارة، وهناك أشكال أخرى أيضاً مثل العود ذى الرقبة الطويلة والبيضاوى والكمثرى وذى الرقبة القصيرة، وهذا يعنى أن المصريين القدماء لم يكونوا هم أول من اكتشفوا واستخدموا المقامات الشرقية فقط بل أيضا أول من عرفوا واستخدموا المقامات الغربية، كما اكتشف العلماء أن أوتار العود مقسمة إلى «تون» و«ربع تون» و«نصف تون» وأن أوتاره التى تم تحليلها مصنوعة من أمعاء القطط وانتقل هذا العود حتى وصل إلى العرب فأضافوا إليه الوتر الرابع واشتهر بالعزف عليه وأصبحوا مهرة إلى أن جاء «زرياب» وأضاف الوتر الخامس ثم بعد ذلك انتقل إلى الدنيا كلها لكن فضل اكتشافه سيظل دائمًا للمصريين القدماء. * هل تطورت الآلات الموسيقية بالفعل؟ ** بالطبع تطورت صناعة الآلات الموسيقية عامة والوترية بشكل خاص حيث شملت الخامات وجودة الصناعة والشكل الخارجى وعدد الأوتار، وما تبعه من زيادة للمساحة الصوتية واتساع الحركة اللحنية بين الحدة والغلظ، حيث ظهرت آلات العود بيضاوية الشكل ذات الرقبة الطويلة والقصيرة وهو ما عُرف باسم عود الرقص، كما ظهر العود الكمثرى الشكل ذو الرقبة الطويلة فى عصر الأسرة الخامسة والعشرين وما بعدها وهو أشبه بالطنبور أو البزق التركى، أما العود القبطى (المصرى) فقد ظهر فى نهاية حكم الفراعنة لمصر فى أوائل القرن الأول الميلادى وما بعدها كما تطورت أيضاً آلة الصنج أو الجنك (الهارب) تطوراً كبيراً فى الشكل الخارجى وعدد الأوتار، الذى وصل إلى 22 وتراً فى عصر الرعامسة الأسرة العشرين، كما وصل ارتفاع بعض تلك الآلات إلى أكثر من مترين. * وهل كان لذلك التطوير تأثيره على الحياة الموسيقية؟ ** لقد أثرى ذلك الحياة الموسيقية فى عصر الدولة الحديثة فجعل الموسيقى المصرية غنية ومتفوقة عن كل موسيقات الممالك التى عاصرتها، مما دعى أفلاطون فى كتابه «الجمهورية» أن يوصى شعبه بالاستماع والاستمتاع بالموسيقى المصرية ذات القواعد والقوانين العلمية، كما اعتبرها أرقى موسيقات العالم وأعظم نموذجاً يمكن أن تحتذى به، وخير وسيلة لتهذيب العقول وترويح النفوس. * إلى أى مدى وصل تميز المصريين القدماء فى عزف الموسيقى؟ ** المصريون القدماء كانوا مميزين فى كل شئ فى المأكل والملبس وحتى فى الآوانى التى كانوا يستخدمونها وفى الطب وفى الفلك وكافة جوانب الحياة وهم أول حضارة استخدمت فكرة إقامة حدود لبلادها وهم أيضاً أول من استخدموا الموسيقى فى الحروب لبث روح التفاؤل عند الجنود ولإرهاب الأعداء والغزاة، لكن الموسيقى بطبيعتها هى علم صوت تنبع من داخل الفنان أو الملحن أو العزف لذلك لم يستطع أجدادنا تدوينها لكى نعرف ما الجمل أو الألحان التى كانت تعزف، لكننا نعرف بلا شك أنهم أول من استخدموا الآلات الموسيقية وعزفوا الموسيقى بشكل احترافى، فالموسيقى ليست مادة ملموسة ولا يمكن نحتها على الجدران لذلك فهى العلم الوحيد الذى يستطيع الفراعنة نقله إلينا ودراسته صعبة جدًا حتى مع معرفتنا أو وجود الآلات التى كانوا يستخدمونها فى العزف، ومعرفتنا أيضاً أن الموسيقى التى كانت تعزف داخل القصر الملكى غير التى تعزف خارجه لعامة الشعب، حيث عرفت موسيقى القصر بالموسيقى الراقية. * ما سمات الموسيقى عند المصريين القدماء؟ ** الموسيقى عند الفراعنة كانت مرتبطة جداً بالتدين حيث كانت الموسيقى تعزف للتقرب للإله وكان المصريون القدماء يعتمدون فى موسيقاهم على ثلاث آلات أساسية وهى «الهاربْ» وهو آلة وترية ظهرت على جداريات شهيرة يليها «الناى» و«الدُف» وهذا الأخير كان له أشكال متعددة عندهم فمنه كان المستدير والمستطيل والخُماسى والسداسى فقد كان أجدادنا المصريون القدماء مبتكرين وعباقرة واستخدموا الرقص والموسيقى والغناء فى التعبد وفى أفراحهم وأحزانهم. * تفوق الفراعنة فى الموسيقى والغناء فهل برعوا فى فنون مصاحبة أخرى مثل الرقص مثلا ؟ ** كنت أدرس الرقص والغناء على يد د. شريف بهادر عميد معهد البالية وكان يشرح لنا دقة المصريين القدماء فى الرقص وفى أداء الحركات البهلوانية فقلت له أن هذا الذى يشرحه يؤكد أن المصريين القدماء هم أول من اكتشفوا فن الباليه وعرفوه، فقال لى «برافو» عليك هذا ما أريد أن تصلوا إليه وفى مرة أخرى أثناء شرحه لإحدى الرقصات الفرعونية الصعبة وكانت تحتاج إلى مهارة ولياقة بدنية عالية لدرجة أنها قد تؤدى لخلع مفصل الركبة إذا لم تؤد بمهارة ولياقة شديدتين، مؤكدًا أن أداء الفراعنة يؤكد بلا شك أنهم أصحاب فن الباليه بلا منازع. * هل أثرت البيئة المصرية على الموسيقى سواء فى الماضى أو الحاضر؟ ** بلا شك، فالبيئة المصرية الجميلة من زرع أخضر ونهر النيل العظيم الجميل انعكست على طبائع المصريين قديماً وحديثا وحتى الآن، لذلك تجد أن المصرى فى كل الأزمان طيب القلب مرهف الإحساس يستشعر الموسيقى ويبكى لسماعها أو سماع الآذان أو القرآن الكريم أو التراتيل. * هل تستطيع الموسيقى مواجهة العنف والاختلاف الحاد والتعصب الذى تمر به مصر فى تلك المرحلة؟! ** طبعاً تستطيع الموسيقى أن تفعل ذلك وبقوة لأن الإنسان المصرى كما سبق أن ذكرت طيب القلب ويحمل الحب والطيبة فى أعماقه وإذا استمع إلى لحن أو أغنية تستنهض هذا الشعور فيه، ربما تغير سلوكه كله، ففى بعض الدول تستخدم الموسيقى لعلاج المرضى وتحقق نتائج إيجابية حقيقية، فالموسيقى تستطيع أن تغير أن تقود. * هل هذه الأغانى والموسيقى الحالية تصلح لهذا الدور؟ وما تقييمك لوضع الموسيقى الحالى؟ ** نحن نعيش الآن حالة من الفوضى السمعية وتطغى على الساحة أغان غريبة على المجتمع المصرى وعلى تراثه الفنى، إذا أردت أن تعرف شعب فاستمع إلى موسيقاه، حيث أصبح الأطفال الصغار يغنون أغانى غريبة ولغتها عنيفة وحادة وقد تكون غير مهذبة أحياناً لذا نحتاج إلى أن نغيّر ثقافة الشعب وأن نقدم للمستمع البديل الجاد المحترم الذى يناسب ذوقه. * هل يستطيع الفنانون الكبار إعادة الطرب الحقيقى والفن الأصيل إلى مكانته؟ ** هناك فنانون تلقى على عاتقهم مسئولية إعادة الفن الأصيل إلى مكانته وأتمنى أن هؤلاء الفنانين الكبار لا يتركون الساحة الغنائية والموسيقية حتى لا تطغى عليها تلك الأغانى الغريبة على ثقافة المجتمع. * هل ترى أن الإسلام يقبل العزف والغناء فى ظل تصريح بعض الشيوخ بتحريمهم وحرمانية العمل فيها؟ ** الإسلام لم يرفض الموسيقى فهناك واقعة شهيرة لامرأة ضربت «الدُف» بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم ابتهاجا بعودة ابنها من الحرب سليماً ولم ينهاها الرسول y، ولو تأكد لى أن الإسلام حرم الموسيقى أقسم بالله أننى لن أعمل بها أبداً، لكن علماء الأزهر مثل الشيخ خالد الجندى لم يحرموها بل قال هذا الشيخ المحترم إنه يعزف «البيانو» فى منزله، إن عزف الموسيقى هو عمل يتسبب فى إسعاد الآخرين، وهو ليس بالعمل الهّين، كما هناك مقولة شهيرة للإمام الغزالى (من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج وليس له علاج). * ما الجملة التى سوف تقولها بعد كلمة «ياريت» ؟ ** أقول «ياريت» ثقافتنا الموسيقية تعود من جديد وتساوى ثقافة المصريين اللذين كانوا يحضرون حفلات أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ بل ينتظرونها. * حينما نقول لك هناك ثلاث رسائل عاجلة لمن توجهها وماذا ستقول فيها؟ ** الرسالة الأولى للفنان محمد الحلو «أين أنت؟ فالموسيقى فى انتظارك» أما الرسالة الثانية للفنانة آمال ماهر «عمار الشريعى رحمه الله قال إنك «أمل مصر» فى الطرب.. بينما الرسالة الثالثة لأجدادنا المصريين القدماء آسفين لأننا لم نستطع أن نكون مثلكم أو نكمل ما بدأتم لكن أكيد سيأتى من يكمل مسيرتكم.