زاد الشك بداخله عندما قرأ الخبر فى الجريدة:«بيانو يتنبأ بالاهتزازات الأرضية»، خبر غريب يثير اهتمام أى قارئ، لكنه لم يشاغب الشغف الخاص بحكاية غريبة فقط، بل داعب حنين روحه منذ أن باع «بيانو فاطمة»، وتتبع الأمر لتبدأ الحكاية التى عزفها الأديب المتميز «محمد المخزنجي» على «بيانو فاطمة» و«البحث عن حيوان رمزى جديد للبلاد» بين دفتى كتاب صدر مؤخرا عن دار الشروق. ومن يقرأ المخزنجى يجد اختلاف أى سعى به إلى جوهر الحياة. وفى «بيانو فاطمة» رسم شخوصه برشاقة سردية، تنقل القارئ من روسيا إلى المنصورة ثم بنها على شغف. ومزج حكايته من التباين بين الشرق والغرب، والحنين لرحلة تعليمه فى روسيا، وحبه «فاطمة» والبيانو الذى اقترحت شراءه قبل العودة. يتذكر يوم اختبرته: يا أنا يا أنا أنا وياك صرنا القصص الغريبة يا أنا يا أنا وانسرقت مكاتيبي وعرفوا إنك حبيبي بصوت شامي، فيه من روح فيروز الدافئ عابر الحدود، وعزفت «فاطمة» لحنا عذبًا لم ينته بعد. وثمّة لحن آخر عزفته طفلة صغيرة وسط أخوة عددهم كبير، وملابسهم رثّة. تركوا البيانو بمدخل البيت فى المنصورة، بعد فشل محاولاتهم فى الصعود به إلى الدور الثاني. وسمع صوت عزف ليلًا لتحدث المفاجاة. يقول: «ثم أعدتها أمام البيانو ووضعت يديها على المفاتيح التى كانت قد أزاحت عنها الغطاء. وشجعتها على العزف. وعزفت دون أن تنظر إلى المفاتيح، بل كانت تنظر نحوى غير مطمئنة لا تزال، لكنها أبدا لم تخطيء النغمة التى كانت تعزفها من اللحن الجميل الذى مكثت أسمعه لعدة أيام سابقة». حتى مجذوب الحى ارتبط بالبيانو وهرول وراءه يوم أن جاءت سيارة تحمله لمكان بيعه، وجد المجذوب فى البيانو ما لم يجده من البشر حيث التعاطف من دون شروط. إنها لغة الموسيقى التى يجيدها الجميع ولا تحتاج لترجمان خاص. بطريقته الخاصة فى السرد المُشبع بالجمال.. يأخذنا المخزنجى لروح الحكاية بالتنقل بين الماضى والحاضر، وحديث القلب بمهارة تصلك بحميمية مع الشخصيات. أولا: أنا لبنانية بنت جنوب، ولا يمكن أن أعيش فى غير الجنوب. مو قضية وطن بس، لا لأن الجنوب عندى أجمل أرض وأطيب ناس فى الدِني». هذا السبب الأول لرفض الجميلة فاطمة الزواج منه، ما جعله يُعجل بالعودة إلى المنصورة ومعه البيانو الضخم، لتبدأ رحلة طويلة من الارتباط بين أهل الحى والبيانو. وكما فى كل كتابات المخزنجى نجد روحا أصيلة، لا تخضع إلا للفكرة والحكي. بيانو فاطمة 47 صفحة فقط، نسجت بمهارة عن طالب علم مُغترب، وعاشق محروم من حبيبته، وأخ مُحب، وشاب متميز بين أهل مدينته.ثم تجئ التكريسة كما عرّفها فى بداية الحكاية، كَّرس الشيء، أى ضم بعضه إلى بعض. وربما اختار هذا المعنى لحكايته الثانية. يقول: «أن أعتمد على الله وأسيب نفسي، لأكتب بضحك، وربما بضحك يشى به البكاء، أو بكاء يشنهفه الضحك، فأكرس فن القصة على تقنية المقال». وهنا يضع سر الصنعة فى مهمته الساحرة. ويحكى كأنه يتكلم مع صديق ويكتب القصة بتقنيات خاصة تميل للبحث والمعرفة والمتعة.