جلست كعادتي في المساء مع البيانو٬ صديقي القديم الذي عدت لصحبته بعد غياب طويل. تسارعت الأفكار برأسي فور ما بدأت في مداعبة أصابعه اللامعة محاولة ضبط إيقاع وتوقيت نغمات لحن الحب لإينيو موريكوني. كررت عزف مطلع اللحن إلا أن محاولاتي لم تنجح في ضبطه. عاودت النظر إلى النوتة الموسيقية وأدركت أني أخطأت في الإيقاع ولذا خرجت نغماتي عن مسارها. الوقت والإيقاع إذا، مرة أخرى الوقت والإيقاع وقدراتي المحدودة على تنظيم كل منهما في حياتي، وها هي الآن تلقي بظلالها على عزفي للحن الحب. عدت إلى عزف مقدمة اللحن وأسرعت إيقاع مداعبتي للأصابع الساحرة، وفجأة انتظمت نغماتي. (شعرت بدموع السعادة التي تزورني على استحياء)، الأمر الذي يقع عادة عندما أستمع لعزفي للحن منضبط. تداعت الأفكار والمواقف في رأسي والتي تشترك جميعها في عدم إعطاء الوقت الأهمية التي يستحقها. الوقت كضيف يستقل قطارا سريعا إن لم تضبط إيقاع حياتك سيمضي ويتركك. فالإيقاع هو لب لحن الحياة الذي يحاول كل منا تأليفه وعزفه في رحلته. ضبط الإيقاع إذا غايته تناغم لحن الحياة. *** ماذا يعلمني البيانو أيضاً؟ الصبر. حقا أصقل البيانو مهاراتي في الصبر، فكم من المرات أكون على وشك ترك قراءة النوتة الموسيقية، إلا أنني أستمر في المحاولة حتى أسمع اللحن بالإيقاع الصحيح. تلك اللحظة الساحرة! مثلها في ذلك مثل الحياة، نحاول ونحاول ونخطئ في النغمات ونبتعد عن ألحاننا فتصير نشازا. تأتينا لحظة الاتساق فجأة وبعد صبر طويل ومحاولات لا تنتهي، فتنضبط وتتسق نغماتنا فتصير لحنا جميلاً متناغما. كررت محاولة عزف مقدمة اللحن حتى أتقنتها وقررت البدء في جزء جديد. داعبت أصابع البيانو اللامعة وفكرت كم تشبهنا نحن البشر هذه الآلة بأصابعها البيضاء والسوداء. آلة؟ أحقا البيانو آلة؟ كلمة أجدها قاسية لوصف صديقي الخشبي الذي أكاد أسمع صوت روحه عند جلوسي معه! أنا مثل البيانو، تلتقي روحي مع هؤلاء الذين يداعبون نغماتي الصحيحة. يملكون مفاتيحي فأبدع معهم وتعزف أرواحنا أجمل ألحانها. أحيانا أقابل من يجبرني على عزف نغمة نشاز فتنفر أرواحنا وتبتعد. *** كم نتشابه البيانو وأنا! أنظر لأصابعه اللامعة، البيضاء والسوداء. ألحانه السعيدة الفرحة هي نتاج الخطى على سلالمه الكبيرة، والتي تقع معظم أنغامها بين أصابعه البيضاء، بينما تخرج ألحانه الحزينة من سلالمه الصغيرة حيث نخطو في معظمها على درجات سوداء. هل هذه هي ألحان الحياة في مجملها؟ كبيرة ومتسعة سلالم السعادة البيضاء وصغيرة خطوات الحزن على الأصابع السوداء؟ تكون كيفما تكون، فكل ما يهمني هو الاستمرار في عزف لحن الحياة وضبط إيقاعه وتناغمه، مهما طال الصبر.