قد تذهب إلى الحفل الموسيقي الكلاسيكي، حفل للعزف المنفرد على آلة البيانو...وعجبًا ما سيحدث لك من ارتباك، فالعازف تحول إلى مشعوذ تقريبًا، ما بين العزف وقوفًا ليتمكن من الوصول إلى أوتار البيانو مباشرة ...وما هذا الشئ الغريب حيث يضع أنامله على نغمات لوحة المفاتيح ولكن لا صوت...ما الذي دعاه إلى هجر لوحة المفاتيح وماذا يحدث وأين الصوت الذي نعرفه جميعًا...؟؟؟ للموسيقي علاقة خاصة بالآلة التي يعزفها، فعادة ما يبتدئ في وضع أنامله عليها من سن صغيرة حتى تتشكل عضلات الأصابع وتنمو الآلة كامتداد للعازف، فكل نغمة لها ثقلها من أعصابه التي تُصدر إشارة لعضلات جهازه الحركي بالتنفيذ والتصويت، ليخرج لنا صوتًا مهذبًا جميلًا من القلب ليصل إيضا إلى القلب. ولكل آلة صندوقها المُصوت، حيث يمتص ذبذبات الصوت الناتجة عن العزف ويقوم بتكبيرها وإضفاء لون ودفئ خاص عليها. وقد ينخدع البعض في ثبات صوت آلة البيانو، فقد نظن أن مجرد الطرق على لوحة المفاتيح التي تحمل الأصابع البيضاء السوداء في الوقت الذي تحده المدونة الموسيقية طبقا لتعليمات المؤلف الموسيقي كافٍ لإصدار صوتً يدخل قلبك كمُستمع. لكن الأمر أكثر تعقيدًا، فمحدودية تقنية إصدار صوت له ألوان متباينة لا يحدث نتيجة الاتصال المباشر بالإصبع على لوحة المفاتيح مثلما يحدث في آلة وترية كالكمان حيث يتواصل الوتر مع إصبع العازف ويأخذ من حركاته، لكن في حالة عازف البيانو فإننا نتعامل مع توجيهات حركات عضلات الجسم كاملة وكمية الضغط الموجهة على الأصبع والتعامل مع بيدال الصوت الذي يواصل رنين الوتر حسب دقة صنع الصندوق المصوت داخل البيانو. ومع حلول عام 1930، كانت صناعة البيانو قد وصلت إلى أوج تطوها ودقتها، فجاء المؤلف الموسيقي الأمريكي ذو الأصل الأيرلندي هنري كاول (1897- 1965) Henry Cowell بمخطوطه المشهور«مصادر جديدة للموسيقى»، ليُوجد علاقة جديدة بين العازف وآلة البيانو. ولا نعرف على وجه التحديد من الذي ألهم كاول فكرة تخطى الشكل التقليدي للعزف على آلة البيانو وإدخال العازف معه في مغامرة جديدة فنيًا وحركيًا وصوتيًا. البيانو الممتد وأحيانا يُطلق عليه «البيانو الوتري» هو العزف على أوتار البيانو مباشرة من غير استخدام الوسيط «لوحة المفاتيح». يتطلب من العازف الكثير من الإعداد لترقيم وتحديد الأوتار، حيث إنه لا دلالة بصرية لأماكن النغمات بعينها... عزيزي القارئ، في المناطق الحادة للبيانو عليك أن تعرف أن كل نغمة لها ثلاثة أوتار، فلتتصور كمية الأوتار التي يراها العازف بمعزل عن أية دلالة، لذا وجب عليه أن يستعين بملصقات صغيرة لا تضر بآلة البيانو ولا تؤثر على الصوت الناتج وبطريقة ذكية حتى لا يتشتت أثناء العزف. كما يتطلب من العازف التعامل مع الحركة الدائرية المرنة لكل الجسم، حيث غالبا ما يتطلب عزف البيانو الممتد الوقوف والانحناء والتبادل ما بين الوقوف والجلوس. لذا يهتم العازف أيضا بالناحية الجمالية الحركية لتناسق واتساق الجسم. لكل بيانو صندوقه وتشريحه الداخلي الخاص، وبالتالي رنينه الصوتي الخاص به...ولكل قاعة موسيقية رنين خاص بها... وعلى العازف القيام بأي عملية تغيير ضرورية في المدونة لتتناسب مع الطبيعة الخاصة المتغيرة، وفي نفس الوقت باتزان واتساق مع أسلوب المؤلف الموسيقي: كأن يُغير في الطبقة الصوتية لنغمة إذا صعب الوصول إليها نتيجة شكل «شاسية» البيانو مثلًا وهكذا. ومن أجمل التقنيات التي قدمها «كاول» هو«الأيوليان هارب»... والهارب الأيولي آله تعزفها الرياح، حيث تقبع آلة الهارب في الفضاء وعندما يمر من خلالها الهواء تهتز الأوتار لتعطي رنة صوت كلية تتصاعد بتصاعد الريح. لا تستغرب عزيزي القارئ إن حضرت حفلًا موسيقيًا وقام العازف بالضغط على أصابع لوحات المفاتيح صمتًا.... لقد تأجل الصوت ولن يقوم شاكوش البيانو بعزفه، بل ستقوم الأنامل الأخرى للعازف بمسح على الأوتار الصديقة القريبة من تلك النغمات الصامتة حيث تهتز أوتارها لترن تلك النغمات فيما بعد، بما يُعرف برنة التعاطف ويعرف موسيقيًا بتقنية الأيوليان هارب.