تنطلق بنا هذه الرواية بحكايات متشعبة تُروى من خلال عدد من الدفاتر بين عامى 1947 و2019، وفى ثلاثة أماكن مأدبا مدينة تقع فى وسط المملكة الأردنيّة، ومدينة عمّان وروسيا. وعن ثلاثة أجيال مختلفة الجد محمود الشموسى الذى يريد لابنه أن يكون طبيبا مشهورا، إلا أن الابن يخيب أمل الأب بدراسة الفلسفة وانتمائه للحزب الشيوعى، بعد الخيبات المتتالية للأب تتراكم الذكريات بداخل مخيلة جادالله فبعد معاناة بالسجن فى روسيا، وعند عودته لوطنه يسجن لانتمائه لأفكار لا تتماشى أو لا تقبل فيسجن ولا يخرج إلا بالتبرؤ والتنصل من تلك الأفكار. بين جادالله وإبراهيم الابن، جيلان متتاليان، جادالله الذى عاش نكبة فلسيطين، واستنزاف 1967، عاش خيبيات ثقيلة أثقلته وأثقلت معه الرحلة، فجاء إبراهيم الابن وهو يمثل جيل ما بعد النكسة، جيل يعانى الكثير، فتلك المأساوية فى الحكاية لم تنتهِ فبعد خروج الاب جادالله من السجن ينتحر فى البيت، ليترك ابنه إبراهيم ليحكى لن دفاتر الوراق عن أشخاص يفقد بعضهم بيوتهم، ويعانى البعض الآخر أزمة مجهولى النسب، عن تتقاطع مصائر الشخصيات بعضها بالبعض فتبرز قيمة البيت الذى يحمل رمز الوطن مقابل أكثر من شكل للخراب. قصة هذا الوراق للأديب الأردنى جلال برجس فائزة بجائزة الرواية العربية «البوكر العربية» فى دورتها الحالية، والتى تأتى وسط سيطرة وباء كورونا على العالم. وفى دفاتر برجس تلك نجد أن الكاتب أجاد رسم الرواية بشكل هندسى فائق الدقة، فتلك الأمور والشخصيات والأحداث كلها متداخل مع بعضه البعض بشكل أو آخر أشبه بخيوط العنكبوت، ليغزل لنا رواية بديعة فى بنائها ورائعة فى لغتها، فإبراهيم الوراق الذى يمثل الجيل الثالث، بعد الجد محمود الشموسى والأب جادالله، والذى رغم قسوة التاريخ الزمنى لأحداث النكبة والنكسة، اللذان تعايش معه أبوه فخلف نكسات متتالية لابنه إبراهيم محاولا تغيرها. أحداث «دفاتر الوراق» تروى قصة إبراهيم، بائع الكتب والقارئ النهم، الذى يفقد كشكه ويجد نفسه أسير حياة التشرد. وبعد إصابته بالفصام، يستدعى إبراهيم أبطال الروايات التى كان يحبها ليتخفى وراء أقنعتهم وهو ينفذ سلسلة من عمليات السطو والسرقة والقتل، ويحاول الانتحار قبل أن يلتقى بالمرأة التى تغير مصيره. فى دفاتر الوراق، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يحكى لنا كراوٍ عليم، حكايات عدة، يسكب حبرا على ورق مكونا دفاتر الوراق التى خطها لنا الكاتب جلال برجس، فى دفاتر متشعبة الفصول متخذا البطل فيها المرض النفسى متجسدا فى شخص إبراهيم الوراق الذى يعانى من مرض الفصام، والذى كان يملك كشك الوراق الذى أقامه أبوه على رصيف أول شارع الملك حسين عام 1981 متخذا منه مصدر رزق يبيع فيه الكتب، والذى جاءه خبر تركه ليتم توسيع الرصيف، مع وعد بأن يتم تعويضه بمكان آخر ذات يوم، فيقول إبراهيم الوراق: «فما عاد لى عمل أعتاش منه». « كان يجب أن تتمترس فى الكشك لئلا يزيلوه وتقول لهم لا، لو كنت مكانك لما تجرئوا على الإقتراب منى » تشرح لنا حالة شقيق إبراهيم ما يعانيه المجتمع من قهر وظلم وفقر وفساد أدى به الحال إلى الهروب وظن الأهل أن الأخ قد مات، وفى اليوم الثالث يتقدم الوالد ببلاغ ليجد ابنه قد هرب إلى تركيا، فهذا المجتمع الذى نجد فيه البعض قد تشرد أو كان الهروب حليف البعض الآخر. «فى اليوم الثالث قدم أبى بلاغا حول اختفائه، وبعد أيام تلقيت منه رسالة تفيد أنه ارتحل إلى تركيا وأنه سيمزق جواز سفره ويهاجر كلاجئ سورى. آخر رسالة وصتنى منه قبل أن تنقطع أخباره كانت مليئة بالقهر». «سألنى ذات مرة أستاذ المدرسة بعد أن فعل ذلك مع معظم الطلبة: (ما هى هوايتك يا إبراهيم الساهي؟) كناية عن قلة كلامى وسهوى الكثير. صرخ أحد الطلبة بوتيرة صوتية متسرعة: (إنه بارع فى التقليد). كان الأستاذ له اسم والدى (جادالله) لكن شتان ما بينهما، الأستاذ جاد الله رجل متجهم وإن ضحك فله ضحكة صفراء يتبعها غضب حاد، منعنى ذات مرة من الذهاب إلى الحمام والمغص يفتك ببطنى، فتتغوطت على نفسى، من ذلك اليوم وأنا أكن له كرها شديدا. اقترب منى بعينه الضيقتين وقال بصوت فيه شيء من البحة المزعجة: (هيا إذن قم بتقليدي) لم افعل لأننى لن أقوى على تقليد شخص لا أحبه، فقمت بتقليد أستاذ اللغة العربية، أغمضت عينى أتأمل صورته فى مخيلتى، وأرخى عضلات وجهى، ثم حركتها إلى أن اتخذت الشكل ذاته الذى عليه وجه أستاذ اللغة العربية، حالة احتارت بها عائلتى ثم مع الأيام تقبلوها رغم غرابتها الشديدة». إبراهيم قارئ جيد كما يعرفه الكاتب بانه قارئ نهم، أجاد الكاتب رسم تلك الشخصية المركبة، والذى سيسكب جلال برجس الحبر على الورق ليقرأ لنا من دفتر الوراق حكايات عديدة، تلقى الضوء على فساد ومعاناة المجتمع والكثير من المشاكل التى تعانى منها أغلب المجتمعات العربية فحيث كان الفساد وجد الضحية وهم الشعب. «عليك أن تراجع طبيبا نفسيا» فى زيارته للطبيب النفسى يوسف السماك والذى سيعجز عن وجود علاج له يحكى لنا الوراق الحدث: «تمثل الطبيب هدوءا مصطنعا ثم وجه لى نظرة فيها ابتسامة باهتة: حسنا اشرح لى بالتفصيل ما الذى تريده؟ فى داخلى شخص مجرم أريد أن أقتله، وليس هناك من هو أكثر قدرة من الطبيب النفسى على أن يضع المخطط لهكذا جريمة مباحة. أخذ الطبيب ينصت بجدية لما أقول، فأكملت حديثى: عليك أن تصدقنى أن هذا المجرم حقيقة وليس أمرا أتوهمه. يعانى إبراهيم الوراق من مرض هذيان ووصل به الأمر أنه أصبح مريضا بالفصام فى الشخصية، وهذا يجعله يستمع لأصوات تحرضه على ارتكاب العديد من الجرائم. زاد الطين بلة وصوله لمخفر الشرطة حيث أراد أن يبلغ عن شخص بداخله، وكان الضابط رحيما به فتركه ليكمل الحكاية، فقال له الكثير والكثير إلى أن قاطعه حين وصل الوراق قائلا كأنى يا سيدى الضابط حامل مثل أى امرأة يتحرك جنينها فى بطنها، حامل بكائن خطير يتحرك فى لحظات يغضب بها. ويذهب بعيدا خارج من مخفر الشرطة وأخذه الحديث مع الشخص الذى يتكلم معه ولا يسمعه إلا هو. «هل الهزيمة قرار مُسبق لا نعترف به؟ وأى هزيمة قادتنى إلى تلك السلسلة الموجعة من هذه الخسارات؟ بعد كُل ذلك العُمر ما تبقى لى شيء؛ إذ ما عاد يربطنى بمسقط رأسى سوى ذكريات تراودنى فى لحظات، وتغيب عنى سنوات طويلة». إبراهيم الوراق واسع الاطلاع ذو ثقافة موسوعية إلا أنه أراد أن يبحث عن رحلة أخرى وهى رحلة الخلاص، فقد تكون بالنسبة للوراق قراره لانقاذ نفسه من عذابات متتالية لا يخلص منها، يترجم هذا الخلاص الكاتب فى قرار يقدم عليه إبراهيم وهو «الانتحار«، ليدخل فى رحلة تبض معه روحه بالحياة والجمال فيكون هو الحب. هذه المرأة لتى تجسد لنا نبض الحياة فى معنى أدق وهو الحب الذى ينظر إلى الحياة بشكل مفعم بالأمل فهل يكون الحب علاج إبراهيم وغيره فى مجتمعاتنا العربية، ويبث فيهم روح الأمل مرة أخرى فى جيل مات إكلينيكيا، جيل مصاب بفصام بفعل الأحداث والكوارث والفساد المنتشر. «مشيت نحو الجسر بخطوات ثقيلة، ومن داخلى يأتى صوت عال لنقرات ساعة تشير إلى لحظة نهاية قادمة، وفى كل خطوة منها تطل ذاكرتى على جانب من عمرى، ومع كل تكة لتكات الساعة يجفل قلبى حزنا على كل ما لم أفعله، إلى أن وصلت حافة الجسر حيث كانت تقف تلك السيدة». وقبل شروعه فى الانتحار وجد امرأة تغير معها نظرته للحياة بل تمسك بها. وتأتى الرواية متشعبة إلى عدة فصول وشخصات اخرى لتخبرنا عن من يعانون من فقدان الاهل والاحبة وعن هؤلاء الذين طردتهم الدنيا ويعانون كونهم أبناء مجهول، فلم يجدوا ملجأ سوى اللجوء للملاجئ، فصارت تلك وثمة عار لهم هذا بالنسبة للمجتمع الذى يحكى عنه الوراق. ولعل أبرز ما فى الرواية هو التقارب فى البناء أو قل استلهاما برواية فيكتور هوجو البؤساء، حيث نجد التأثر جليا حين بدأ الكاتب العرض ببعض كلمات لفيكتور هوجو، ولكن بؤس المجتمعات العربية ياكل أبناءها واحدا تلو الآخر كلنا متشاركون فى عملية الهدم، هدم النشأ أى هدم المستقبل. أجاد الكاتب الربط بين تلك الخيوط العنكبوتية بذكاء وتمكن ايجابى لا يجعل القارئ فى موضع ملل مع العمل بل يتفاعل مع خيوطه التى تتخذ أشكالا عدة أو قوالب مختلفة متنقلا بين دراما رومانسية و«اكشن» بوليسى وآخر سياسى ويجمع بين تضادات أخرى مثل الحب والخوف والقتل والفقر والفساد والتسلط والسطو والانقتام والانفصام.. إلخ، متناولا بحرفية شديدة مأساة المثقف التى يلخصها شاعر العربية المتنبى: «ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم». يذكر أن جلال برجس شاعر وروائى أردنى من مواليد 1970. يعمل فى قطاع هندسة الطيران، كتب الشعر والقصة وأدب المكان قبل أن يتجه إلى كتابة الرواية، كما عمل فى الصحافة الأردنية لعدد من السنين وترأس عددا من الهيئات الثقافية، وهو الآن رئيس مختبر السرديات الأردنى، ومُعد ومقدم برنامج إذاعى بعنوان (بيت الرواية). وصدر له فى أدب المكان «شبابيك مادبا تحرس القدس» (2017)، و«حكايات المقهى العتيق» رواية مشتركة (2019). ونال عن روايته «مقصلة الحالم» (2013) جائزة رفقة دودين للإبداع السردى عام 2014، وعن روايته «أفاعى النار» (فى فئة الرواية غير المنشورة) جائزة كتارا للرواية العربية (2015)، وأصدرتها هيئة الجائزة فى عام (2016). وصلت روايته «سيدات الحواس الخمس» إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (2019).