فى شهر نوفمبر، التقيت بمدير فى إحدى شركات الاستثمارات الخاصة التى تتنامى أعدادها فى بكين. تكلم عن استثمارات الشركة فى برمجيات توزيع الطاقة والاتصالات النقالة. أما المصدرون، فلن يستثمر معهم أبدا. إن بحث الصينيين المحنكين عن استثمارات فى الداخل وتجنبهم القطاع الذى حقق لهم كل هذا النمو خلال السنوات الأخيرة يعكس نزعة جديدة من المرجح أن تستمر وتنتشر فى العام المقبل. خلال العقود القليلة الماضية، تنقلت السلع والخدمات والناس عبر العالم بوتيرة غير مسبوقة ولمسافات لا تنفك تزداد. كان الافتراض السائد أن هذه هى الوسيلة الأكثر فاعلية لتنظيم الشئون الاقتصادية العالمية. لكنها أدت إلى ردة فعل عكسية، بسبب الوضع الاقتصادى والسياسة وانتقال الثروات من الغرب إلى الشرق. ونتيجة لذلك، يبدو أننا نشهد الآن انحسارا لموجة العولمة. فى الأشهر التى أعقبت سبتمبر عام 2008، انهارت كل المقاييس المعتمدة لإثبات الترابط المتزايد للاقتصاد العالمى. فقد أفاد بنك البلدان الأمريكية للتنمية فى شهر أغسطس أن الحوالات المالية من مغتربى أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبى ستتراجع بنسبة 11٪ عام 2009، لتعود إلى المستويات التى كانت عليها عام 2006. ويتوقع صندوق النقد الدولى أن يتقلص حجم التجارة العالمية بالسلع والخدمات بنسبة تقارب ال12٪ هذا العام. طبعا، يمكن توقع تطورات كهذه عندما ينكمش الاقتصاد العالمى كما حصل عام 2009، للمرة الأولى منذ عام 1944. لكن الانخفاض الحاد فى مستوى التجارة كان أكبر بكثير من الانخفاض الصغير فى مستوى الإنتاجية الاقتصادية العالمية. لقد تبين أن نواحى كثيرة من العولمة كانت قائمة على المديونية. فالصادرات والاتجار بالعملات والاستثمارات الدولية كانت ممولة بواسطة الديون والحسابات الائتمانية. وفى الولاياتالمتحدة، وهى جاذب أساسى للسلع المصدرة، كان الاقتراض وسوق العقارات المزدهرة محركى الاستهلاك. كما أن السندات المالية والتمويل التجارى كانا المسهلين الأساسيين لتدفق السلع والخدمات، وهما من الدعائم غير المرئية للاقتصاد العالمى. وعندما تفاقمت أزمة أسواق الائتمان فى خريف عام 2008، تقوضت هذه الآلية التجارية. فى حين أن التجارة استعادت بعضا من زخمها بعدما وصلت إلى أدنى مستوياتها، فإن حجمها بعيد كل البعد عما كان عليه فى ذروته. ففى سبتمبر، كان مجموع الواردات والصادرات الأمريكية أدنى بنسبة 24٪ من مستوياته فى يوليو عام 2008. والبلدان التى تضررت من الانخفاض المفاجئ فى الطلب من المشترين الأجانب أدركت أنها لا تستطيع بكل بساطة تحقيق الازدهار بفضل صادراتها. (تراجعت صادرات الصين بنسبة 23٪ بين أغسطس 2008 وأغسطس 2009). ويخصص المستثمرون المحنكون مواردهم الآن لشركات تنتج سلعا محلية للأسواق المحلية. كما أن الشركات الغربية أصبحت تعى بشكل أفضل أن العمالة متدنية الأجرة ليست الحل لكل المشكلات. وقد تعلمت المؤسسات التجارية خلال العامين الماضيين أنه كلما كان الطريق طويلا ومعقدا قبل وصول السلع إلى هدفها، ازدادت احتمالات حدوث اضطرابات، متأتية من الفيروسات والخلافات الجيوسياسية والارتفاع الحاد فى أسعار الطاقة. وفى حين أن الصين لاتزال المصنع الأساسى للعالم، أصبحت بعض الشركات تدرك، فى عصر التقلبات فى الطلب، أن التصنيع بالقرب من الأسواق المحلية أكثر فاعلية، حتى ولو كانت كلفة الإنتاج أعلى. وتلعب السياسة أيضا دورا فى انحسار موجة العولمة. فالركود أدى إلى مجموعة متوقعة من ردود الفعل الحمائية. لقد فرضت البلدان المتقدمة فى آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية رسوما جمركية جديدة، وقدمت إعانات لمصدريها، واشترطت أن تنفق الأموال التحفيزية محليا، وقدمت دعما خاصا للبنوك المحلية وصانعى السيارات المحليين. هذه النزعة دفعت الشركات الأمريكية والأجنبية على حد سواء إلى إعادة النظر فى طريقة تعاملها مع السوق الأمريكية الضخمة، لاسيما فى القطاعات التى تحظى بدعم حكومى: قطاع الطاقة والقطاع المالى وصناعة السيارات. على سبيل المثال، تقوم شركة «سوزلون» الهندية وشركة «فيستاس» الدنماركية المختصتان بتصنيع طواحين توليد الكهرباء باستثمارات ضخمة فى مصانع داخل الولاياتالمتحدة، ليس فقط لأن شحن الطواحين لمسافات بعيدة أمر مكلف، بل أيضا كى تعتبرا «أمريكيتين» بنظر مسئولى الولايات والحكومة الفيدرالية المعنيين بتمويل المشاريع الخضراء. فى الواقع، وإلى حد معين، يتم الآن عكس العملية التى اتبعتها الولاياتالمتحدة لتصدير الوظائف. ففى نوفمبر، ذهب تيد ستريكلاند، حاكم ولاية أوهايو، وهى من الولاياتالأمريكية الأكثر تضررا من العولمة، إلى مجمع تجارى فى ميلفورد، وهى إحدى ضواحى مدينة سينسيناتى، للتعبير عن فرحته لأن شركة «تاتا» للخدمات الاستشارية، وهى الشركة الهندية العملاقة المختصة بتصدير الوظائف، أصبحت الآن توظف 300 عامل فى مركز التسليم المحلى فى أمريكا الشمالية، مما يعنى أن شركة تصدير الوظائف هذه أصبحت مستوردة للوظائف. لعلنا لا نشهد انحسارا للعولمة، بل عولمة من نوع جديد. Financial Times