رجال أيديهم على الزناد دوما، يستيقظون آناء الفجر ليتلمسوا أطراف الشهادة، يقاتلون وهم مبتورى الأطراف ومجبرى الأذرع، ينالون من الطعام أقله وينتصرون للإسلام ولو نقص سلاحهم، ليس لهم غير الجهاد من غاية سوى تعلم الدين وتلاوة القرآن، ولا يمكن للحياة أن تغريهم بمتعها حتى أن أحدهم يترك عروسه ليلة الزفاف ليلبى نداء الدفاع عن ديار الإسلام بينما الآخر لا يأتيه النوم إلا بعد أن يعود من ميادين الجهاد ضد الغزاة الشيوعيين. هذه هى الصورة التى يقدمها كتاب أيمن صبرى فرج فى الكتاب المعنون «ذكريات عربى أفغانى أبوجعفر المصرى القندهارى» كتاب القندهارى، الصادر عن دار الشروق فى 301 صفحة من القطع الكبير، وإن لم يقصد يقدم بصورة ما تدوينا لأيام المجاهدين العرب فى أفغانستان تلك الأيام التى ما زلت تحير الساسة والعسكريين وتلهم الكتاب والمسلحين من الإسلاميين. فالأحداث لا تبتعد إلا نادرا عن ساحة القتال بكل تفاصيلها، والشخوص هى قلة من الأفغان المحاربين وأكثرية من العرب المجاهدين آتوا من الجزائر والسعودية واليمن بل ومن أمريكا وبالتأكيد من مصر، كما القندهارى نفسه، اجتمعوا على الرغبة فى نصرة «شعب أفغانستان المسلم» على الرغم من خلفياتهم المتباينة، بين من عاش حياة الورع ومن عاش الحياة على عكس ذلك، على رغبة واحدة وهى دحر جيوش الاتحاد السوفييتى من أفغانستان. «كنت أعلق على جدران غرفتى صورة أفغانى رضيع حرقه النابالم.. وكل صباح أقسم أمام هذه الصورة أننى سوف أقاتل فى أفغانستان»، هكذا يتذكر الكاتب أيام حنينه للذهاب إلى الجهاد. وعلى الطائرة التى أقلته إلى باكستان وفى الطريق من باكستان إلى افغانستان يلتقى أيمن قبل أن يكون له كنية أبى جعفر المصرى القندهارى، التى حصل عليها كما يحصل كل مقاتل فى الجيش على رتبة عسكرية.. فهذا أبوجعفر وهذا أسد الله وذاك أبوبكر أو أبوحمزة. «سأذكر التفاصيل وأترك التفسير»، هكذا وعد القندهارى فى مقدمة كتابه الذى هو بمثابة مذكرات لعامين أنفقهما فى أفغانستان منذ 1988 عندما قالت له أمه بالرغم من محاولة والده اثناءه أن يذهب للقتال لأنه «لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»، وحتى أقعدته إصابة فى أحد مستشفيات أفغانستان، بعد أن وطأ لغما وهو بعد فى ميدان القتال فقرر، بناء على نصيحة ممرضه الأفغانى المجيد للعربية بأكثر ما أجاد القندهارى لغة البشتون، التى شغف بها أن يتداوى من آلامه المبرحة بكتابة ذكرياته. وذكريات القندهارى الذى نسب نفسه إلى أهل قندهار لإعجابه بشجاعتهم اللانهائية والتى تجعلهم حسب قوله «كالأسود الجريحة يفضلون الموت على الضيم»، يمكن أن تصيب من يطالعها بمشاعر مختلطة فيها إعجاب، ببراءة الاعتقاد فى معنى الجهاد ومشاق دروبه، وفيها حماسة، هى فى الأحرى عدوى من فرط حماسة الكاتب لكل حركة وسكنة يقوم بها المجاهدون بدافع من عقيدة راسخة وإيمان موحى وبإحساس بأن «يد الله فوق أيديهم»، وبها أيضا مشاعر الدهشة والغضب من تبنى خريجى أفضل الجامعات المصرية وصفوة كلياتها لأفكار مثل حرمانية التصوير وانشغالهم بالمقارنة بين التصوير الضوئى والتصوير الزيتى لتحديد حرمانية هذا أو ذاك وخشية المجاهدين أن يلتقطوا حبات من عنب من مزارع تركها أصحابها فى فزعهم من القتال الدائر بين جيش السوفييت والمجاهدون. مطالعة ذكريات القندهارى قد تدعو القارئ للابتسام وهو يتابع المقارنات المتفرقة التى يعقدها الكاتب بين سلوك العرب والأفغان، فالعرب يقاتلون وينبطحون ولكن الأفغان، خاصة من هو منهم من أهل قندهار لا ينبطح أبدا، بل ويصعد على أسطح العمارات ليتوجه بالسباب لطيارى الجيش السوفييتى الغازى، بل وربما يلومه لسوء التصويب على الهدف. والعربى يخشى الموت أكثر من الأفغانى ولكن الأفغانى الذى ينظر للموت بجرأة لا يستطيع أن يتطلع فى جثث تركت فى العراء أو أن يواريها الثرى ويحتاج دوما لعربى ليقوم عنه بهذه المهمة أو هكذا يبدو. أمر لابد وأن يستوقف القارئ خاصة من النساء: ذكريات القندهارى لا تأتى على ذكر المرأة إلا قليلا وبصورة يسيطر عليها التجهيل. المرأة هى أم القندهارى لا اسم يذكر لها التى تشجعه فى الذهاب للجهاد وهى بن نظير بوتو واحد من اسمين فقط للنساء رئيسة وزراء باكستان، التى يعتقد المجاهدون ويقولوا إن الباكستانيين الذين قبلوا بولاية المرأة هم بالضرورة «خنازير بوتو»، وهى «مريم» ابنة أحد المجاهدين الذى يعد القندهارى برواية حكايته ولكنه لا يفعل وهى عروس أحد المجاهدين التى تترك لغاية أسمى من الزفاف وهى الجهاد. أو هى المرأة التى تغطى جسدها بالكامل، بطول أفغانستان وعرضها، فيما يصفه الكاتب بأنه دليل الالتزام الشديد من قبل أهل أفغانستان ودائما كما يذكرنا «خاصة قندهار» بالاتباع المحكم «للسنات» الكلمة الأفغانية المساوية للسنة المحمدية الشريفة. وفى رواية القندهارى ما يستهوى النفس ربما للذهاب لرؤية تلك البلاد التى يكاد أن يصفها بأنها «جنة تفتن الناظرين»، حيث «تبدو الطبيعة ساحرة رائعة.. الأحراش فسيحة تأوى إليها سلالات عجيبة من الحيوان والطير البرى.. والورود الفيحاء.. تتفجر المياه من الجبال الصماء عذبة رقراقة». والقندهارى، خلال سنتى الجهاد تأخذه الرحلة ليس فقط إلى باكستان المجاورة والآوية أحيانا للمجاهدين، ولكن أيضا إلى العراق «حيث الشيعة يصلون فى مساجد السنة» فى عهد صدام حسين، الذى يصفه أهل أفغانستان بأنه «كومنست كافر» وإلى إيران، بلاد الإمام الخمينى الذى يصفه أهل أفغانستان بأنه «شيعت كافر». وهو يذهب إلى السعودية، بلد الوهابية التى يصر أيضا أهل أفغانستان على أنها بدعة لا إسلام، ثم إلى الكويت بحثا عن مال لزواج يزهد فيه حبا فى الجهاد. ولكن فى كل ما يروى القندهارى وهو يفعل ذلك فى إطار من السرد لا يخلو من مرونة تحرره من قيد توالى الأحداث فهو لا يحاول أن يقنع أحدا بأسباب ذهابه أو غيره للجهاد فى أفغانستان، فهو يطرح ما حدث ولا يبدو مشغولا بالتبرير ربما لأنه يبدو نفسه كما غيره لا يعرف لذهابه لأفغانستان وليس إلى فلسطين مثلا سببا قبل أن يأخذ الطريق إلى كابول فقندهار غير حالة الحمية، التى أصابته من الآلة الإعلامية، التى أديرت فى عهد الرئيس المصرى السابق أنورالسادات، والذى يظن أهل أفغانستان به الخير كله؛ لأنه طرد الخبراء الروس من مصر حتى وإن فعل ذلك مرضاة لواشنطن. أما عن سبب بقائه فهو الولع الذى أصابه بالجهاد وبأفغانستان وبرفاق مجاهدين. رواية القندهارى عن أيام الجهاد فى أفغانستان لا تخلو من لحظات تساؤل حول أمور تبدو فى لحظات بديهية فى ميدان المعركة مثل القتل ولكن ماذا عن القتل بسيارات مفخخة فى وسط ميادين تكتظ بالأبرياء هل هذا إرهاب؟ القاعدة وأسامة بن لادن وعمر عبدالرحمن، يأتى على ذكرهم أبوجعفر المصرى القندهارى عابرا. فهو لم ينضم إلى القاعدة لدى وصوله إلى ميادين القتال، لأنه أراد أن يتنقل إلى غير مكانها، وبن لادن وعبدالرحمن هم، فى التحليل النهائى لما يقول الكاتب، مجاهدون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. كتاب القندهارى به حديث عن المذاهب فى الإسلام، والسياسة فى البلاد الموالية لأمريكا، وعن مشروع باكستان النووى وعن دور العلمانية فى تحجيم حجة الإسلام فى تركيا فى نهاية ثمانينيات القرن الماضى، ولكن فى ذلك كله فإن الحديث هو من منظور مجاهد عربى فى أفغانستان، ظن، كما غيره، أن دحر الروس، كما غيرهم عبر التاريخ، من تلك البلاد المنيعة سيحول دون أن يأتى يوما قائد غربى ليلقى بجيوشه فى آتون أفغانستان، أو أن الرئيس الأمريكى فى نهاية العقد الثانى من الألفية الثالثة سيكون فى محل ترجى لأفكار ومساعدات تعود بجنوده من تلك البلاد. «لا أستطيع أن أقرر أننى أتفق مع صاحب الذكريات فى كل ما كتبه»، هكذا يقول الكاتب فهمى هويدى فى تقديمه لذكريات القندهارى. غير أن هويدى الذى زار أفغانستان مرارا وكتب مقالات مطولة وكتب مرجعية عن تجربة أفغانستان قبل وأثناء وبعد حكم طالبان بما فى ذلك إصدار الشروق «طالبان جند الله فى المعركة الغلط» رأى فى ذكريات القندهارى ما يستحق المطالعة ولو من باب التعرف على لحظة البراءة فى تجربة جسدت معنى الجهاد الإسلامى» بما لم تجسده تجربة أخرى فى العصر الحديث، ثم تغيرت معالمها فإساءت لفكرة الجهاد بما يخشى معه «أن ترتفع الأصوات ذات يوما داعية للجهاد ولا تجد مجيبا».