ما يجعل هذا الكتاب من أفضل إصدارات 2019، وأكثرها تفردا، ليس فقط الطريقة التى عولجت بها حكايته، والتى تمزج ببراعة وسلاسة بين التحقيق الصحفى الاستقصائى، والسرد الروائى، والدراسة الأدبية والاجتماعية الذكية، ولكن أيضا لأن مؤلفة الكتاب انطلقت من مأساة بطلته لاكتشاف عصر، وللحديث عن جيل الانتقال فى سنوات تحول عاصفة، لم تعد القصة عن أديبة مجهولة لم تتحقق، ولا عن امرأة انتحرت رغم مقاومتها لظروفها الخاصة والعامة، ولكنها صارت حكاية البحث عن الحرية وتحقيق الذات. «فى أثر عنايات الزيات» لإيمان مرسال (عن دار الكتب خان)، يحفر عميقا فى البشر والأماكن والحوادث، ويمزج بين الخاص والعام، سؤاله المحورى سبب انتحار الأديبة عنايات الزيات فى يناير 1963، وهى تبدأ بالكاد عامها ال27، لم تطبع روايتها الوحيدة «الحب والصمت» إلا فى 1967، غابت عنايات وروايتها عن المشهد الأدبى، سقطت سهوا من الحياة، ومن قوائم الأعمال الأدبية، بل غاب اسمها عن شجرة العائلة، دفنت فى مقبرة هامشية، سرعان ما هدمت وسقط شاهدها. إيمان تبحث عن عنايات فكأنها تبحث إيمان، عن ذاتها، وعن كل الكاتبات، وعن المرأة فى ذلك الزمن العاصف، لا تنس وأنت تقرأ أن ما لمس إيمان منذ البداية هو صوت عنايات الخاص فى روايتها «الحب والصمت»، وانعكاس حياتها على شخصية نجلاء بطلة الرواية: ذات تصرخ وتبحث عن حريتها فى العمل والحب والرسم، يموت حبيب نجلاء فى الرواية، وتموت عنايات انتحارا فى الواقع، وتصبح الحرية على المحك فى الحالتين، بحث دائم بدون وصول أو نقطة فى نهاية السطر. حيوية هذه المعالجة أن مفتاحا اسمه «حكاية عنايات الإنسانة والأديبة» يفتح أبوابا بلا نهاية: باب وطن يتغير فى الخمسينيات والستينيات، وباب جيل نساء الانتقال على حد تعبير الفنانة نادية لطفى، وهى صديقة عنايات الأقرب لها، وباب الحياة الثقافية المصرية وشخصياتها المحيرة، وباب مرض الاكتئاب، وباب المرأة التى تطلب الطلاق فيرفض زوجها، وتصبح مهددة بالعودة إلى بيت الطاعة، وباب الذاكرة الأرشيفية الضائعة، الغائبة أو المغيبة عمدا أو جهلا. لم تعد عنايات مجرد شخصية إنسانية وأديبة متفردة بصوتها المتألم، وبأحلامها المحلقة فى الخلاص، وبأسئلتها الوجودية عن المعنى والموت والحياة، ولكنها صارت أيضا عنوانا على علاقة الذات بالآخر، وعلى هذا البحث عن نقطة توازن مفقودة، كانت مريضة بالاكتئاب بالفعل، بحثت عن التوازن بالرسم وبالكتابة، وبحثت عنه فى البيت والأمومة والأسرة وفى الصديقة، فلما لم تتحقق، اختارت الغياب، الفن لا يشفى من الكآبة، ولكنه يجعلها محتملة. تبدو عنايات، فى الكتاب، مثل شخصية تراجيدية بامتياز، نبيلة ومثالية، تعى منذ البداية اختلافها حتى فى مرضها، وتدرك أن أحلامها أكبر من واقعها، الخطأ الأهم هو اختيار الزوج غير المناسب، ومشكلات طلاقها وحضانة ابنها الوحيد، ولكنها تصارع حتى النهاية، تستعد لكتابة رواية جديدة، بعد تجاهل نشر روايتها الأولى، ولكن الألم يكن محتملا، فاختارت الصمت الأبدى الذى صنع ضجيجا وقتها، ثم عاد صوت عنايات صاخبا مدويا مع كتاب إيمان عنها. لا يفرض السرد سببا بعينه للانتحار، ولكنه يرسم الظرف والحالة، ومع كل فصل تتكشف مفاجأة جديدة، وكأن بناء الحكاية «المتكلم» يعوض صمت وموت بطلتها، بل إن حياة عنايات تنعكس على أحوال إيمان واهتماماتها، تتقاطع الشخصيتان، وتتكرر نفس عبارات الوصف، يمكن بسهولة أن تعود إيمان كصديقة لعنايات فى الخمسينيات والستينيات، مثلما تتخيل إيمان أن عنايات تغير زمنها لتكون صديقتها فى التسعينيات، عنايات أيضا كتبت إيمان على نحو ما. حكاية عنايات هى قصة كل ذات مغتربة باحثة عن التحقق، وهى حكاية كل إنسان يرفض الهامش، ويريد أن يكون متنا ونصا وحروفا لا تنمحى. أن تبحث عن عنايات فأنت ستبحث حتما عن الحرية، وعن الكتابة كخلاص أخير، عن زمن الطموحات الكبرى، والإحباطات الأكبر والأعظم، وعن صوت شهر زاد التى ما زالت تتحدى الألم بالحكى. قيمة هذا الكتاب الفريد فى أن رواية عنايات كانت مرآة لروحها وأسئلتها، مثلما كان كتاب إيمان عن عنايات مرآة لأسئلة إيمان وجيلها. ما زالت أسئلة الحرية والتحقق والذاكرة المنسية مطروحة ومعلقة، وما زالت تبحث عن إجابات مع كل عصر، ومع كل جيل.