اللغات «اختراع فاشل» والصمت هو لغتنا العالمية الأم ابحث عن حقيقة المشاعر الإنسانية بين سطور الصمت وجدران الغرف الخاوية فى مقال للكاتب الليبى هشام مطر نشرته صحيفة الجارديان البريطانية، قال بلغة شاعرية بليغة: «أشعر بالمحبة تجاه صديقى، وهو أيضًا يبادلنى نفس الشعور، ولكننى أشعر أحيانًا أن كلمة «المحبة» ليست بالضبط التعبير الصادق عن ذاك الشعور المتبادل بيننا؛ فنحن نادرا ما نتحدث عن مشاعرنا تجاه بعضنا البعض، بالرغم من أننا حاولنا ذلك عدة مرات؛ ذات مرة جلسنا نتجاذب أطراف الحديث حول أول لقاء جمع بيننا، وكيف كان أريحيًا وعفويًا كما لو كنا نعرف بعضنا البعض منذ فترة طويلة، ثم صمتنا لبرهة عن الكلام فوجدتها فرصة مواتية لأشرح له أن هذا ديدن تكوين الصداقات بين بنى البشر؛ فنحن لا نأنس بصحبة كل من نقابلهم، أرواحنا هى من تقوم بالاختيار بالنيابة عنا، نظرت إليه فوجدته موافق إلى حد ما على ما أقول، ولكنه أراد أن يخبرنى أيضًا بنظرياته الخاصة عن صداقتنا والكيفية التى نشأت بها، فجلست أستمع إليه وأنا أشعر فى قرارة نفسى بالشعور ذاته الذى أجزم أنه شعر به حين تحدثت أنا: مزيج من الحذر والثبات الانفعالى المؤرق قليلًا، الناتج عن ولوج الكلمات إلى الروح والعقل، ولحظات التفكير فى الرد الملائم لها». وأضاف الكاتب العالمى صاحب روايات «فى بلد الرجال»، و«العودة»، و«اختفاء»: «وبالرغم من أننى أمتهن الكتابة، ومن أن الكلمات أدواتى، إلا أننى أرى أن الكلمات لا تمنح أبدًا الإنسان البلاغة للتعبير عما يجول فى نفسه، ولا توصل المعنى الحقيقى لما يشعر به للطرف الآخر؛ فالصمت لا يزال سيد الحديث؛ وأنا لا أشعر بطبيعة علاقة الصداقة التى تجمعنى بصديقى ومدى اعتزازى بها، إلا خلال لحظات الصمت التى لا يصحبها سوى وقع خطواتنا على الأسفلت أثناء سيرنا معًا، وأنا لا أقصد هنا إعطاء «تعريف تقليدى» للصداقة؛ فاللغة منوطة بتقديم مثل تلك التعريفات، وإضفاء الوصف على المشاعر المختلطة التى تحويها العلاقات الإنسانية، بما فيها من أفكار وخواطر مضطربة، بل إننى أشير هنا إلى «معنى أكبر». الصمت فقط هو ما يجعل المشاعر الحقيقية تطفو على السطح، والطريقة التى أشعر بها تجاه أصدقائى وعائلتى والمرأة التى أحبها لا يمكن اختزالها على الإطلاق فى الكلمات؛ فهى نهاية الأمر ليست سوى ترجمة لتلك المشاعر، أما الصمت فهو النص الأصلى، هو مرحلة ما قبل الترجمة، والغريب فى الأمر أننا نفهمه، قدرة البشر على تلك «البلاغة الصامتة» أمر يثير إعجابى ودهشتى حقًا، ويجعلنى أيضًا متفائلًا بوجود سبل أفضل للتفاهم بيننا فى المستقبل، إذا ما استطعنا تفعيل قابليتنا لتقبل الحقائق، وإدراك طبيعتنا المشتركة، التى تتيح لنا فى بعض الأحيان فهم بعضنا بعضًا والحصول على أقرب صورة (لأنها دائما ما ستظل صورة وليست أصلًا) لمشاعرنا الدفينة تجاه بعضنا البعض دون أن ننبس ببنت شفة، لدى أمل فى «غير المنطوق» إن جاز التعبير، ولا أقصد بالطبع هنا الصمت الذى يتم «فرضه» على الإنسان لأى سبب خبيث أيًا كان، بل أتحدث عن الصمت الحميد، لغتنا الأم العالمية، العبقرية، التى تعبر حتى عن أشد مكنوناتنا تعقيدًا. وأشار هشام مطر فى مقاله الذى يتحدث فيه عن أمور إنسانية متجاوزا الكلام المباشر عن السياسة وأوجاعها إلى «إن الصمت هو البئر العميقة التى تردد صدى صوت المنطوقات الصادقة لروح الإنسان، والأمر ليس مقتصرًا فقط على علاقاتنا الفردية كأشخاص، بل يشمل مجتمعاتنا بواقعها السياسى والاجتماعى الحافل بالأحداث أيضًا. ابحث عن الحقيقة بين سطور الصمت التى تتخلل خطب السياسيين، فتِّش عنها فى الغرف الخاوية التى غادرها للتو مجموعة من البشر، اغمض عينيك وأنصت لها فى المرة القادمة، عندما تكون فى اجتماع عمل، أو مع شخص ما تحبه، أو واقفًا أمام لوحة أو تقرأ كتابًا أو تطبخ وجبة، حاول أن تسمع صوتها، كلما ازددت إنصاتًا، كلما فاضت عليك من جعبتها بالحكايات، لن تعجبك كل الحكايات بالطبع، بعضها لن تود سماعه، ولكن تذكّر، مجرد قدرتك على السماع، نعمة. اشطح بخيالك معى وتخيل أننا فى هذا المشهد الفانتازى فى الحياة الآخرة، بعد فناء كل أشكال الحياة والبشر والموجودات، وإذا بكيان شرير ما ولنفترض أنه امرأة يقرر أو تقرر أن تلعب دور المؤرخ، لتقوم بتقييم ميراثنا الإنسانى كله الذى خلّفناه كحضارة بشرية سكنت الأرض لآلاف مؤلفة من السنين، ثم تصعقنا بالحقيقة المفزعة: إن تاريخنا الأدبى بأكمله، عبر كل الأزمنة، وعبر جميع اللغات الإنسانية، ليس سوى «فشل ذريع»، كان يُقصد به صلاح؛ محاولاتنا الجميلة والبطولية للتعبير عن شىء أكثر وضوحًا من الصمت باءت بالفشل، ولكنها فى قرارة نفسها كانت تعلم أنه لم يكن لدينا خيار آخر؛ كان علينا أن نتكلم، وكان علينا أن ندون، مثلما هو لزامًا عليها أن تفعل حتى فى الحياة الآخرة وكانت تدرك حقًا أن موروثنا الإنسانى من الأدب ومن اللغات بجميع أنواعها، لم يكن سوى انعكاس صوتى بدوره لبئر الصمت العميقة، وأن الصمت كان بشكل ما حليفا لنا فى رحلتنا».