على الرغم من تعدد الكتابات التى تناولت فترة حكم المماليك لمصر والتى تنوعت بين كتب تاريخية متخصصة وأعمال أدبية فإنها لم تهتم إلا بالجانب السياسى فى حياة المماليك: مناصبهم العسكرية، وصراعاتهم الداخلية، بالإضافة إلى رصد وتتبع الأثريين للحركة المعمارية التى ازدهرت فى عهدهم، أما الجانب الاجتماعى فلم يسلط عليه الضوء بالشكل الكافى، ويرجع البعض هذا الأمر إلى أن المماليك لا ينتمون إلى أصول مصرية فهم مجرد جنود ذوى قوة وبأس استولوا على حكم مصر طمعا فى كنوزها وفى سلطة تعوضهم عما فقدوه من انتماء لوطن محدد.. رواية «أولاد الناس» أحدث الأعمال الأدبية للكاتبة «ريم بسيونى» الصادرة عن دار نهضة مصر، استطاعت أن تسلط الضوء على الجانب الاجتماعى لحياة المماليك فى مصر والوقوف على طبيعة العلاقة التى جمعتهم بالمصريين من خلال ثلاث حكايات هى عدد أجزاء الرواية، فى حين نرى أن مسلسل «ممالك النار»، الذى يوثق الحقبة الأخيرة من دولة المماليك وسقوطها على يد العثمانيين فى بدايات القرن السادس عشر والمسلسل من إنتاج شركة جينوميديا الإماراتية سنة 2019، ومن تأليف محمد سليمان عبدالمالك وإخراج المخرج البريطانى بيتر ويبر. فى رواية «أولاد الناس» تبدأ الحكاية الأولى حين يقرر الأمير «محمد بن عبدالله المحسنى» الزواج من «زينب» ابنة أحد التجار المصريين، إلا أن هذه الفكرة قوبلت بالرفض والمقاومة من جميع الأطراف حتى استنكرها المماليك ذاتهم، ولكن بالرغم من استحالة الأمر تم الزواج. كانت «زينب» فتاة مصرية على قدر وافر من التعليم والدراية بأمور الحياة، بالإضافة إلى شغفها بالقراءة والاطلاع الأمر الذى زادها قوة على الرغم مما يبدو عليها من ضعف، لتعرض من خلالها الكاتبة صورة مغايرة لتلك التى طالما وصمت المرأة المصرية بالجهل والسذاجة فى تلك الفترة. «الأمير محمد» هو رمز لرجال المماليك الذين لم يعرفوا سوى الحياة العسكرية والدفاع المستميت عن حقوقهم، فأصبح هدفهم الأول أن يضربوا بجذورهم فى الأرض التى يختارونها ويضعوا بصمتهم عليها بحكمها والحياة بين أهلها بالعدل تارة وبالعنف تارة أخرى. جمعت بينهم الكاتبة فى منزل واحد لترصد الغموض ومعه أمور أخرى الذى كان ولا يزال يغلف العلاقة بين الرجل والمرأة، الذى حول كراهية الفتاة المصرية للأمير المملوكى إلى قصة حب تاريخية آثارها باقية حتى الآن فى دار الكتب المصرية وبين مقابر المماليك! كان محمد وزينب رمز للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فحين يستسلم المحكوم للضعف سوف تتحول حياته إلى جحيم لا محالة، ومادام الحاكم لا يعرف سوى البطش والتعالى فلن يجنى سوى الكراهية ولعنة التاريخ الأبدية، ولن يجد أى منهم راحة أو يعرف العدل إلا إذا تفهم كل منهم طبيعة دوره فى حياة الآخر. كما كانت تلك الزيجة التى اخترقت حصون العادات والتقاليد هى نقطة انطلاق الكاتبة للكشف عن جانب آخر من جوانب الحياة الاجتماعية للمماليك، فعلى عكس حياة المملوك كانت حياة أبنائه الذين يعزلون تماما عن الحياة العسكرية حتى أطلق عليهم المصريين لقب أولاد الناس للتعبير عما يعيشونه من رفاهية. وقد تفرغ أولاد الناس لأعمال أخرى كالمعمارى الذى امتهنه أصغر أبناء الأمير محمد وزينب، وهو المعمارى المصرى «محمد بن بيليك المحسنى» الذى صمم مسجد السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون وأتم بناءه عام 1363. بالوصول إلى هذا الجزء يكتشف القارئ أن المسجد سوف يصبح أحد أبطال الرواية وأهمهم على الإطلاق، فقد أتخذت منه الكاتبة رمز للمكان داخل الأحداث التى تختلف وتتقاطع بين جدرانه لتبدأ المزيد من الحكايات التى اشتركت فى السرد السلس المتناغم فى ترتيب الأحداث، وملامح الشخصيات الواضحة بالرغم من تعددهم، بالإضافة إلى لمحة من الحاضر كانت بداية موضوعية للأحداث وأعطت المزيد من المصداقية للمعلومات والأسماء والأحداث. ثم تبدأ الحكاية الثانية التى تتناول صراع القاضى «عمرو بن عبدالكريم المناطى»، مع الولاة التى تؤدى به إلى قصر السلطان «الظاهر سيف الدين برقوق»، فينصره السلطان على غير المتوقع فى ذلك الوقت، وتتحول الصلة بينهم إلى صداقة، سرعان ما تهزم أمام مصالح الحكم وتتحول إلى عداء يمنع القاضى عن أداء مهام منصبه وتمنعه حتى من إلقاء الدروس فى مسجد السلطان حسن. لم يكن الهدف من شخصية القاضى داخل الرواية رصد النزاع بين السلطة والقضاء، فمن خلال التقلبات التى مر بها قاضى قوص كما عرف داخل الأحداث، يمكنك أن ترى الأوجه المتعددة للقضاة والعلماء حين يوظفون حججهم القانونية والفقهية لخدمة أغراضهم، وكل وجه منهم يستحيل أن تقف بسهولة على ضعف حجته. كما كانت حكاية القاضى بمثابة رمانة الميزان فى الرواية فقد سيطر عليها الخيال أكثر من الحقيقة، فحافظت على أهم أساسيات العمل الروائى خاصة أن جميع الأسماء وأغلب الأحداث حقيقية، وهو ما حرصت الكاتبة على توضيحه فى هوامش منفصلة فى نهاية كل جزء من أجزاء الرواية. باعتزال القاضى عمرو وتولى المؤيد شيخ حكم مصر تبدأ الحكاية الثالثة التى كانت بمثابة جزء توثيقى يشمل شهادات متعددة للتاريخ يمليها الأبطال على كاتب هو «ابن إياس» الذى عرف داخل الأحداث بأبو البركات كانت مهمته تقتصر فقط على الاستماع لجميع الشهادات التى المؤيدة والمعارضة للغزو. الشهادة الأولى كانت ل«هند» الفتاة التى تعرضت لمحاولة تعدى واغتصاب من الجنود العثمانيين ولم ينقذها منهم سوى مملوك كان عليها أشد قسوة حين امتلكها لنفسه ورفض أن تعود إلى أهلها، لتعبر الكاتبة من خلال هذا الموقف أن المماليك لم يكونوا أقل قسوة ولم تكن حياة المصريين تحت لوائهم كريمة كما يصورها البعض. ثم تأتى شهادة «سلار» أحد رجال المماليك المخلصين الذين دافعوا عن الأرض حتى لحقت بهم الهزيمة، كما عبرت الكاتبة من خلاله عن المماليك الذين اختاروا الانتماء إلى مصر والدفاع عنها حتى أصبحوا هم الناس وأصحاب الأرض. الشهادة الثالثة هى شهادة الترجمان مصطفى باشا العثمانى التى كانت دائما فى صف سليم الأول وبررت دوافعه لاحتلال مصر وقتل قادة المماليك بالمواجهة المباشرة وبالخيانة، لكن هذا الجزء تتجلى فيه مهمة التاريخ وهى توثيق جميع وجهات النظر لتكتمل الصورة التاريخية. بالوصول إلى هذا الجزء تقف الكاتبة طويلا أمام حقيقة أخرى وهى موقف المصريين من الغزو العثمانى، فقد تكاتفوا وتقدموا للتجنيد فى صف واحد مع المماليك تحت راية السلطان طومان باى إلى أن هزمتهم الخيانة وسيطر العثمانيون على مصر. بنهاية الأحداث استطاعت الكاتبة أن تقف بالقارئ أمام قدرة العمل الروائى على أن يكون مرجع هام للأحداث التاريخية، بل هو الأجدر لأن الحكاية هى ما تحرك العمل، وحكايات الناس هى منبع الحدث هى الذاكرة التى تحفظه حتى يحين موعد الكتابة، لكنها لا تصلح بمفردها فهى وإن لم تذكر الحكاية كاملة سوف تكون الجسر بين القارئ وبين أمهات الكتب التاريخية؛ حين تدفعه بأسلوبها السردى الشيق للمزيد من البحث.