"على الضفة الأخرى من خليج القرن الذهبي وفي محيط الباب العالي تأتلق المشاعل وتتفجر الألعاب النارية احتفالا بالنصر على المجر.. يتأملها جابر.. ويتمثل بريقها دموعا تلمع في ظلام الليل الساجي! في ناحية تصدح الموسيقى وترفرف الرايات وتتوالى وفود المهنئين .. وهنا يعلو النشيج وتذرف الدموع ويتوافد المعزون .. على كلتا الضفتين اجتماع أفرزته الحرب ولأن النساء أكثر من يشعر بويلات الحروب، فقد نبضت رواية "جابر" أحدث روايات الأديبة المصرية نجلاء محرم ، بأنين ضحايا الحروب ، هؤلاء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في انتصار الجيوش الجرارة على أعدائها، كانوا يحلمون بالعيش الكريم بوطن تقلهم أرضه وسماؤه، فلم يجدوا غير مواجهة الحياة القاسية بعد فقد الأحبة والسند و الاضطرار للهجرة نحو المجهول بعيدا عن نبع حياتهم. الرواية صدرت عن دار "الزهور" في 375 صفحة من القطع المتوسط .. وهي تندرج ضمن سلسلة من الروايات التاريخية عمدت الكاتبة إليها في أعمالها الأخيرة، وفي هذه المرة نحن على موعد مع الفتح العثماني لمصر والذي أسقط دولة المماليك للأبد ،، ركزت الرواية على أسباب سقوط دولة المماليك حيث كان الأمراء لا يكفون عن حياكة المؤامرات للصعود للسلطة، وكانوا لا يتورعون عن قتل بعضهم البعض، ونهب أقوات عامة الشعب عبر إطلاق رجالهم ، واضطهاد معارضيهم، ووصل الحال بنهاية عصر المماليك لاستقواء بعضهم بالسلطان العثماني سليم على سلطانهم الغوري ومن بعده طومان باي والذي شنق على باب زويلة فلم تشفع له شجاعته ولا حنكته ! ولكن الرواية أيضا لا تسير بموجة تمجيد الدولة العثمانية فتجد أن السلطان سليم رغم قهره لمطامع البرتغاليين بالمنطقة وتهديدهم للمقدسات ودخوله وابنه للمجر وروديسيا وغيرها من معاقل الغرب، وتأسيس خلافة متطورة باسطنبول علما وفنا وقوة وإدارة، لكنه يستهين بالدماء البريئة ، فيقتل أخوته كلهم للوثوب للسلطة، ويجلب العمالة الماهرة من البلدان التي يفتتحها لتدعيم عاصمة الخلافة ، ناهيك عمن يسقطون كل يوم من أبرياء بلا جريرة سوى رغبة دولته في التوسع شرقا وغربا .. حفلة المكائد والخيانة ومن ساحة القصر السلطاني تنطلق رواية "جابر" حيث يعارض شيخ الإسلام علي مالي رغبة سلطانه سليم الأول في غزو مصر ودحر المماليك، بحجة أنهم مسلمون ولا يجوز قتال المسلمين، وهنا استبد الغضب بالسلطان وسعى لتبرير حملته بأنها ردا على صمتهم على تهديد المقدسات الإسلامية من قبل الغرب ورفضهم قتال الصفويين أعداء الدولة العثمانية، وكان سليم قد فرغ لتوه من حروب الشاه وأذل أنفه فبقي له المماليك يستعين سليم في حملته على مصر بأعوانه من المنطقة، ومنهم خاير بك ، والذي سمي ب"خاين" بك بعد إظهاره الولاء للسلطان الغوري ثم الانقلاب عليه وقيادة ميسرة جيش الأعداء بالجيش العثماني في معركة مرج دابق والتي مهدت لدخول العثمانيين مصر ، ومن بعدها كانت معاونة جان بردي الغزالي والي حلب للسلطان سليم لدحر طومان باي آخر سلاطين المماليك، رغم أن الأخير كان يظهر غضبه من قبول طومان باي عرض السلطان العثماني بالصلح في مقابل توليه مصر وجزء من الشام تحت الخلافة العثمانية!! ولكنه تواطأ ضده في النهاية لما علم بقرب نهايته وكانت خيانته له سببا في هزيمته بمعركة الريدانية ومن ثم دخول العثمانيين للبلاد . تجسد الرواية خيانة البدو للسلطان المملوكي طومان باي آخر سلاطين المماليك وخاصة شيخ العربان ومحاولات طومان باي الشاقة لتجييش الجيش لملاقاة العدو وتلك السكينة الغائرة بصدره من خيانات أمراؤه المتوالية له ومع ذلك تسامحه معهم لصعوبة الموقف والحاجة للحشد ،وأخيرا تتجسد بالرواية مشاعر الحزن التي انتابت أهالي القاهرة بعد شنقه على باب زويلة،فقد كان يمتاز بحسن معاملة الرعية على خلاف من سبقوه، لكن السلطان سليم قرر قتله عقابا له على قتاله ضدهم وقتله الصدر الأعظم سنان باشا بنفسه .. صداقة من نوع خاص في هذه الآونة ظهرت موجات الانتقام من قبل المماليك بحق العثمانيين وجندهم، ومن هؤلاء الجند تبرز شخصية "أصلان" وهو الذي جمعته صداقة نادرة ببطل الرواية الحقيقي "جابر" وهو مصري اكتسب مهارة العمارة الفنية المصنوعة من الخشب وصار من أشهر صناع المنابر حيث يعمل بورشته إلى جانب ابنه الذي اكتسب منه حب الصنعة "حسن" وكأن الراوية جعلت هذا الرجل "يجبر" ما تحطم بين شعبين آلمتهما الحروب، ويرتق بصداقته مع أصلان كل الصدع، كلاهما كان يعلم كم هي الحرب بغيضة، ويعلم أن الساسة يصنعون كعكة الموت ليتقمها البسطاء، اخبره جابر يوما : أنتم حين وجهتم بنادقكم لم تكن للمماليك، وإنما لصدورنا نحن ودكاكيننا صداقة جابر وأصلان تقول بعبارات حارة كم تتوق الشعوب من النيل للبوسفور للسلام، وكم تضطرهم دولهم التي لا تفكر إلا بمنطق القوة للحرب سيموت "أصلان" قائد المدفعية الماهر بيد المماليك، ويحزن عليه صديقه "جابر" رغم أنه من المفترض أنه جاء لغزو بلاده، لكن المشاعر الإنسانية بينهما لغت تلك الحواجز التي صنعها الحكام وعادت لطبيعة البشر وميلهم للسلام وكراهيتهم للدماء .. سيكون أصلان سببا بنجاة ابن جابر من بطش العثمانيين، وسيكون جابر سببا بنجاة ابنة صديقه الراحل فيما بعد من الحياة بدون تعليم ودور .. زاوجت فصول الرواية بين مشاهد بيت أصلان وجابر، لأنهما نموذجان للشعبين المصري والتركي، ولشعوب العالم أجمع، فبينما "زينب" زوجة جابر المحبة تستنشق ببيتها عبير محبة زوجها، خوفها عليه وعلى ولدها لأبعد مدى، وبؤسها الذي يكفي العالم كله حين قرر العثمانيون ترحيله قسريا لاسطنبول وهو ما يعني فراقهما لأجل غير محسوب تجد على الضفة الأخرى مهتاب المحبة لزوجها أصلان، والتي تذبل أوراقها وينتهي الأمر بموتها سريعا بعد معرفتها بمقتل زوجها في مصر .. شاهد .. في غرفة العرش وحين يأتي جابر لاسطنبول تمكنه أقداره من معرفة ما يجري بالقصر العثماني المهيب من مؤامرات ودسائس لا تختلف أبدا عما كان يعتمل بدولة المماليك، فالانكشارية يهددون دوما بالتمرد ويسعى السلطان لاستمالتهم ناهيك عن صراع الأمراء من أجل العرش، ويكون منوطا من المعلم جابر أن يؤسس لغرفة استقبال الضيوف الأجانب بالقصر، وهي غرفة لابد أن تجمع بين الجمال والهيبة، وقد نجح بذلك تماما بفضل موهبته ونبوغه، فكانت مطعمة بما يمثل الحضارات البيزنطية والفارسية والعربية ونالت استحسان الجميع برغم ذلك ، بموت السلطان سليم ينزف الحزن وتتوالى ترحمات الناس على ذاك الميت الذي جلس على عرش الدولة فأخضع الصفويين والمماليك وضم دولتيهما لتاجه .. وشرف عرشه بالمسئولية عن الأراضي المقدسة في الحجاز والقدس وأعاد ألق الخلافة الإسلامية الذي انطفأ عبر خلفاء عباسيين صوريين حرص المماليك على الاحتفاظ بهم والسيطرة عليهم ليديروا باسمهم شئون المسلمين .. لكن الغريبة أن السلطان الذي قطع المسافات البعيدة وطاف البلدان فاتحا .. وأنفق العمر غازيا .. لم يجد وقتا ليتم قبره ! وبينما جابر يمارس عمله بالقصر، إذا به يفاجأ برأس الوالي الحلبي جان بردي الغزالي تأتي للسلطان، بعد أن تجرأ وسعى لاستقلال الشام عن الدولة العثمانية، وكانت فعلته سببا لنقمة القصر العثماني ولم تشفع له خيانته القديمة لدى الاعداء! فكر جابر في مشاعره إزاء هذا الموقف، هو لا يرى حزنا يتسرب لنفسه من مقتل الغزالي، وهو يعلم أن الرجل لو استقل بالشام لما شغل رأسه بعودة المهجرين قسريا من بلاد المنطقة التي سيطر عليها المماليك، بل وكان أهون شيء على أمراء المماليك هو نهب الأقوات وقتل بعضهم بعضا فلماذا يحزن لمقتلهم !! كان "كنان" صديق جابر في الغربة خير نموذج على مفارقات الحزن بديار الفاتحين المنتصرين، فقد فقد أخوه المحب، وتساءل عن سبب توسع بلاده شرقا وغربا رغم نجاحاتها واستقرارها الحضاري ، وخاصة أن كثيرا من البلدان التي غزتها لم تكن تمثل أية تهديد للمسلمين، ربما هذا هو ما يجعل الفتح فاقدا لمعناه ووجها آخر للغزو الاستعماري الذي عرفه العالم ويعرفه حتى الآن، طلبا للقوة والثروة القاهرة .. اسطنبول في بيت "أصلان" نرى الجميلة آيفر ابنته المحبة للعلم، وصديقي أسرتها الذين توليا رعايتها "فرحات" و"بيللور" واعتبراها ابنتهما بعد أن حرما من نعمة الإنجاب، وكانا لها خير عون في الحياة، ثم لقائها بصديق أبيها المصري "جابر" وما رواه لها عن أيامه الأخيرة والصندوقين الذين أعدهما لزوجته وابنته تعبيرا عن حبه وامتنانه هذه الفتاة ستقرر السفر لمصر طلبا للعلم، لأن عاصمة الخلافة العثمانية آنذاك كانت تقصر مشاركة المرأة بالحياة العامة وتعليمها ، بخلاف نساء مصر اللاتي كن يرتدن الأسواق ويشاركن بشكل أكبر بالحياة العامة . ولكن الأجمل أنها ستتزوج من "حسن" نجل المعلم جابر، والذي عرف بمهارته الفائقة بصنعة أبيه وحبه للخير وحرصه على أهل بيته .. وفي بيت "جابر" ستعود الحياة بعودته من جديد بعد غياب سنوات طويلة، ولأول مرة توافق"زينب" على ارتداء الزينة أو التخلي عن اللون الأسود الذي وسم ملابسها وحياتها، وكانت قد أظهرت قوة كبيرة في غياب زوجها في مواجهة من يتعدون على محال البسطاء، وربما لذلك بدت وجلة للغاية من محاولة جابر إقناعها بالسفر لاسطنبول لخطبة فتاة تركية لابنهما ، فهي تمثل الشجرة المستقرة بجذورها في الأرض، زينب هي مصر التي افتقدها جابر بغربته وظل مكسورا لأجلها تنتهي المشاهد بسطح سفينة ضخمة تنساب في بحر لا يرى له أول ولا آخر .. زينب تتأمل هذا الأزرق العظيم .. أمامها جابر وحسن يتضاحكان ويتحدثان عن العروس الجديدة .. وستكون السفينة جاهزة للرجوع لمن أراد استئناف حياة طعنتها سهام الفراق. والرواية يمكن اعتبارها سرد شعبي للتاريخ ، أو تأريخ للمهمشين الذين يصنعون كل شيء ولا يتذكر أسماءهم أحد .. كتبت بلغة راقية تمزج بين البساطة والرقي وعمدت لاستخدام صوت الراوي البطل بلغة الكاتبة مع تضفيرها بحوارات بين الشخوص. أما الكاتبة فهي قاصة وروائية حصلت على جوائز عربية ومحلية وصاحبة مسابقة باسمها في القصة القصيرة ، غير مؤسسة "نهر النيل الثقافية" بالشرقية والتي تعد رافدا تنويريا هاما بمصر، وقد أصدرت من قبل مجموعات قصصية منها "ماسات على شاطيء الخوف" "لأنك لم تعرفي زمن افتقادك" ، "تعظيم سلام" وروايات منها " و""شرشبيل" "الغزو عشقا" ، "رنزي يا ظل الإله" "جابر" بين أيدينا تستهل بعبارة حاكمة من مقطع لقصيدة نظمها السلطان سليم الأول تعكس رؤية الساسة عبر العصور وتقول : سجادة واحدة تكفي صوفيين اثنين .. لكن العالم كله لا يكفي ملكين "