الفنان المصرى صلاح عبدالكريم ( 1925 – 1988 ) فنان متعدد المواهب فهو أستاذ فى التصميم والزخرفة والديكور وخزاف من الدرجة الأولى.. ولكن عبقريته تجلت فى أعمال النحت فهو من أهم النحاتين المصريين المعروفين على نطاق عالمى لريادته فى تشكيل منحوتاته من الحديد الخردة بأسلوب اللحام وقد ذكر فى موسوعة لاروس للفنون كرائد لهذا النوع من التشكيل على مستوى العالم. يعتبر تمثاله صرخة الوحش من الأمثلة الفذة الدالة على منطقه الفنى ومفهومه فى التشكيل.. نحن أمام وحش غير محدد الهويّة قد يكون خنزيرا بريا أو مسخا أسطوريا برأس زاحف وجسد حيوان من الثديّات.. أو ربما بحكم تركيبته المعدنية قد يكون كائنا لا أرضى من تلك المخلوقات الفضائية التى تسكن تلافيف عقل الخيال العلمى هبط على كوكبنا من خارج المجموعة الشمسية يريد بالإنسانية شّرا لا ريب فى هذا. يقف الوحش على أربع رافعا رأسه إلى أعلى فاغرا فاهه عن أنياب كالخناجر المسلولة مطلقا صرخة يخيّل للرائى أنها تخرج من مكامن أحشائه وكأنّ جسده كله قد تحول إلى بوق عظيم من الأبواق التى ينفخ فيها شياطين الجحيم وهم يسوقون ضحاياهم من الآثمين إلى جوف الأتون الأبدى.. وما يضيف إلى مظهره قسوة وشراسة هو ملمس سطحه الخارجى الخشن.. فجسده ملىء بالشقوق والنتوءات والشظايا والأشواك وكل جسده مكوّن من المثلثات والزوايا الحادة وكأنها آلات قطع تهدد من يلمسه بالجروح والندبات. الصرخة التى يطلقها هذا الوحش عصيّة على تحديد هويتها.. هل هى صرخة تحذير لمن قد تسول له نفسه الاقتراب منه.. أم هى صرخة الوحش الذى يريد إلقاء الرعب فى فريسته ليشلّ قدرتها على الفرار قبل الهجوم عليها.. أم هى صرخة حيوان جريح أثخنته الجروح وأدمت جسده طعنات الحراب فهى الصرخة الأخيرة التى يطلقها محملّة بكل الآلام وكل العذابات قبل الخلاص الأبدى بعد أن ينتهى كل شىء ويسلم الروح. عندما ينظر الرائى إلى هذه التحفة العبقرية التى أبدعها فناننا العظيم صلاح عبدالكريم فإن أول ما يأخذ بلبه هو هذا التعبير الجامح الذى استطاع الفنان أن يشكّله من مجموعة من نفايات الحديد الخردة وكيف تمكّن الفنان من أن يعطى قيمة فنيّة لأجزاء غير مترابطة من أشياء كانت مصنّعة لأغراض أخرى.. وربما سيستعيد إلى ذاكرته رأس الثور التى صنعها بيكاسو من ذراع القيادة ومقعد عجلة مهملة وجدها ذات يوم.. ولكن قطعا سيقفز إلى ذهنه السؤال كيف استطاع الفنان أن يبنى هذا العمل الفنّى من قطع من الحديد الخردة لا قيمة تشكيلية لها منفردة ولا علاقات بصرية تربطها ببعضها.. مجموعة غير متجانسة من المسامير والصواميل والزمبركات والتروس... مواسير ومفاتيح وجنازير وقطع من الألواح الحديدية.. والأدهى من هذا هو الصعوبة الجمّة فى تشكيلها، فالفنان هنا لا يعمل فى خامة طيّعة مثل الصلصال يستطيع أن يضيف وأن يحذف أثناء عمله وإنما هو يبدأ بكومة من هذه النفايات متنوعة الأشكال والأحجام وفى ذهنه تصوّر للشكل الّذى يريد تشكيله وعليه أن يوائم بين ما هو متاح لديه وما يرغب فى الوصول إليه.. كما أن أسلوب التشكيل مرهق وقاس وربما محفوف بالمخاطر فهو يقطع ويشذب ويصل ويلحم كما لو كان أسطى من الأسطوات فى ورشة من ورش اللحام وليس فنانا فى مشغله. ما يميّز فنانا كصلاح عبدالكريم هو قدرته على بناء عمله من الجزء إلى الكل فهو لا يبدأ مثل النحاتين بكتلة من الحجر هى الهيكل العام ثم يزيل منها بأزميله ليكشف عن تمثاله طبقة ثم أخرى.. ولا هو يبدأ بهيكل من السلك يضيف إليه كتلة الصلصال كبناء عام ثم يضيف التفاصيل.. ولكنه يبدأ بجزأ يبنى عليه ويصل معه أجزاء أخرى معتمدا على قدرته الفائقة على الانتقاء وإيجاد علاقات بصرية بين الأجزاء وبعضها وهكذا يستمر فى البناء حتى يصل إلى الشكل النهائى. قال عن تجربته «نحن نعيش فى قرن من المعادن لذلك يجب أن تحدث تغييرات فى فن النحت.. فالنحات يعمل حسب الفراغ ويدخل الشمس والهواء فى إبداعاته.. إننى لم أعد أتعامل مع الكتلة مبتدئا من سطحها وأعمل إلى الداخل بل أبدأ من داخلها وأعمل إلى الخارج». تمثال صرخة الوحش للفنان صلاح عبد الكريم