يتميز فن النحت بأنه الشكل الفني الذي حافظ علي ذاكرة مصر التاريخية والمعاصرة.. وفي القرن العشرين بدأت نهضة هذا الفن بتشجيع من الأمير يوسف كمال حفيد الخديوي إسماعيل. الذي لمس موهبة متألقة لدي الفنان محمود مختار فأرسله لاستكمال دراسته في باريس حتي فاز بجائزة معرض الفنانين الفرنسيين عن نموذج تمثاله "نهضة مصر" الذي تم تكبيره وإقامته من أحجار الجرانيت في ميدان محطة السكة الحديد "ميدان رمسيس حالياً" ثم نقل عام 1955 إلي الميدان المواجه لجامعة القاهرة بالجيزة. العلامة الثانية المتميزة في فن النحت حققها الفنان جمال السجيني الذي أثبت تفوقه من خلال لوحات النحاس المطروق وأكد بذلك ارتفاع قيمة العمل الفني عندما يتم تنفيذه في خامة نبيلة. فإن الاتجاه إلي استخدام المعادن في تشكيل التماثيل بدأ في مصر بطريقة غير مقصودة. فأول من اتجه إلي تشكيل التماثيل من قطع الحديد الخردة المجمعة عن طريق اللحام هو الفنان صلاح عبدالكريم "1925 1988" الذي نفذ سمكة متوحشة عام 1958 لتكون قطعة ديكور يزين بها ركناً في مسكنه. وشاهدها الفنان بيكار بالصدفة فشجعه علي الاشتراك بها في معرض بينالي "ساوباولو" بالبرازيل.. وكانت المفاجأة أن فاز عنها بإحدي جوائز البينالي.. وحصل بعدها علي جوائز دولية ومحلية.. فواصل الطريق في تنفيذ تماثيله المعدنية. هكذا وضع صلاح عبدالكريم العلامة الرابعة المتميزة في تاريخ فن النحت المصري الحديث رغم أن تخصصه الدراسي كان في فنون الديكور والزخرفة. لكنه استطاع أن ينتزع تقديراً عالمياً في ميدان "التماثيل المجمعة من قطع الحديد الخردة" وقد اتجه أيضاً إلي التمثال الخشبي والتماثيل المسبوكة في المعادن.. كما أقام عدداً من التشكيلات الصرحية الضخمة في مدينة جدة بالحجاز بالتعاون مع المثال حليم يعقوب الذي أشرف علي تنفيذها. ومن الضروري الإشارة إلي أن اشتراك صلاح عبدالكريم في جماعة صوت الفنان عام 1945 لم يكن باعتباره مثَّالاً ولكن باعتباره رسَّاماً.. لكن روح التمرد والثورة والرغبة في التجديد لازمته حتي تحولت مصر من نظام الاقتصاد الزراعي السائد إلي الاتجاه للتصنيع والاستقلال الاقتصادي بعد حرب السويس "بعد تأميم قناة السويس" عام ..1956 وكانت تماثيل الفنان الحديدية هي أفضل تعبير فني عن الاتجاه للتصنيع الخفيف الذي بدأ في تلك الفترة. إن الإضافة التي حققها الفنان تتعلق بالانتقال من الخامات التقليدية لفن النحت إلي خامة لم يسبق استخدامها عند المثالين السابقين أو المعاصرين له. وفتح بذلك آفاقاً جديدة للتحرر والتجديد. وتماثيله الحديدية تراعي القوانين الجمالية. قوانين التوازن والتوافق والإيقاع بين الكتل والفراغات. وهي أعمال تشخيصية في معظمها. وقد تميز أسلوبه بالفهم العميق لخصائص الخامة واستيعاب منجزات الفن العالمي والتعبير عن مرحلة الاتجاه إلي التصنيع في مصر. والحديد رمز صريح لها. وفي نفس الوقت عبر عن اغتراب الإنسان المعاصر ورعبه من أسلحة الدمار الشامل. وذلك من خلال تماثيل الحيوانات الخرافية المفزعة القوية التعبير. وقد حقق اتجاه الفنان إلي الخامات المعدنية في تشكيل التماثيل بطريقة الإضافة. إغراء لنحاتين آخرين بخوض نفس التجربة أو استخدام خامات أخري معدنية ولكن لم يتفوق أحدهم عليه فاتجه إلي هذا الطريق الفنانون عمر النجدي وأحمد السطوحي وسمير ناشد وأحمد عبدالحميد وغالب خاطر وصالح رضا ومحمود شكري وغيرهم. ويمثل الفنان صبحي جرجس سعد المولود عام 1929 نموذجاً للانصراف كل الوقت للتمثال المعدني. فقد حرص علي الخوض في تشكيل المجسمات بالخامات المعدنية بعضها كان يسبكه مباشرة عن تماثيل شمعية وأحياناً يسبك الأجزاء ثم يضيفها بعضها إلي بعض.. وهي تتميز أنها رقيقة أقرب إلي الأشكال الورقية منها إلي التجسيم الكامل. ويتحقق الإحساس بالبعد الثالث أو التجسيم عن طريق التعبير عن الحركة وتفاعل الظلال والفراغات. أنه من المثالين القلائل الذين اتجهوا إلي التحديث وإلي الإغراب في أعمالهم مع الحرص علي الخامة المعدنية لتشكيلاته.