عندما اندلعت أحداث 17 و18 يناير عام 1977 سجل مراسل مجلة التايم الأمريكية الذى غطى الشغب فى الشوارع، أسوأ ملاحظة سياسية واجتماعية عن الشعب المصرى بقوله إن المصريين يغضبون فى حالتين فقط، الأولى بسبب الخبز، والثانية بسبب كرة القدم. لكنه المفهوم الحكومى نفسه على ما يبدو، ليس هذه الحكومة، ولكن كل الحكومات. وهو مفهوم متوارث، وضارب فى جذور الحكومات المصرية منذ أقدم عصور الفراعنة، العصر العتيق. فالحكومة عاشت آلاف السنين تخاطب الشعب وتربيه وتغريه بالخبز والزيت والسكر والشاى، والشعب عاش سنينه يفكر ويقرر ويتكلم من بطنه. باعتبار أن الإنسان أنشئ أجوف ولابد له من الطعام والشراب! وهذا ليس صحيحا ومراسل التايم لم يكن دقيقا، فالحرية قبل الخبز وليس الخبز قبل الحرية. نحن الذين رضينا بالمعادلة التى لا ترضى بها الشعوب الأخرى. واستغلت الحكومات المتعاقبة هذا الرضا، فباتت كل منها تخاطبنا برغيف العيش والزيت والسكر، خطاب يبدو فى باطنه تهديدا بالحرمان من ضرورات الحياة. لكن كرامة الإنسان والمواطن أهم من خبزه وزيته. وأعرف رجالا بكوا حين أهدرت كرامتهم بالضرب أو الإيذاء من كبير أو مسئول أو ضابط شرطة، إن أبسط الناس وأغناهم وأفقرهم لا يقبل أن تسلب منه كرامته أو حريته، لكنه يمكن أن يجوع ويصبر على جوعه. لا تصدقوا أبدا أن الخبز قبل الحرية، إنه بعدها بكثير.. والكرامة والعدل والمساواة واحترام القانون أهم من هذا كله وقبله كله! عندما تهدر الدولة القانون فسوف يطعن المواطن القانون ولن يحترمه وسيجد البلطجة حلا للفوز بحقه. وإنصافا للحق كعادته حين يعلم بوقائع وتجاوزات يسرع وزير الداخلية اللواء حبيب العادلى بالتدخل، كما حدث مؤخرا فى وقائع حفلة التعذيب التى جرت فى أبوالنمرس ونشرتها «الشروق». وكان تدخل الوزير انتصارا للعدل ولكرامة المواطن، لكن هل يعلم الوزير بكل الوقائع المماثلة.. مستحيل. هل يجب أن ننتظر أن يتدخل وزير الداخلية لرفع ظلم.. مستحيل..! لذلك يجب أن تصان كرامة كل مواطن بالقانون وبالدستور.. المسألة بجد خطيرة وعميقة.. وهذا التسطيح للعلاقة بين الدولة وبين الشعب واختصارها فى الطعام وتوفيره، ضيع الانتماء الدائم وجعله لحظات خاطفة فى عمر البلد، قد تطول سنوات وقد تستمر شهور وقد تعيش 90 دقيقة فى مباراة لكرة القدم. وما بين السنوات والأشهر والمباريات يضيع الانتماء أو يرحل فى انتظار عودته بتحد جديد يكشف عن المعدن المصرى الذى يظهر وقت الشدة، مع أن الحياة وتحدياتها أصلا شدة تستوجب ظهور هذا المعدن دائما.. لماذا يغيب الانتماء ولا يظهر إلا فى المناسبات؟ لماذا فقد الناس إيمانهم بالمشروعات القومية على كثرة تلك المشروعات فى الوقت الراهن؟! غاب الانتماء لأن المواطن لا يشعر بأنه شريك فى إدارة الوطن. غاب هذا الانتماء لأن الدولة التى تتحدث كثيرا عن القانون لا تحترمه، ولا تتبناه، ولا تدافع عنه. والقانون ليس قانون الجنايات أو المرور، إنه القانون بمعناه الشامل، القواعد والنظام. فعلى يمين كل مواطن حزمة مكتوبة من اللوائح والقوانين، حزمة هائلة، وتقابلها فى جهة اليسار على الطاولة نفسها حزمة أخرى هائلة من اختراق تلك اللوائح والقوانين.. فكيف ينفجر الانتماء دوما ويبد ومثل نبع ماء أو نهر يفيض ويتجدد ولا يعرف الجفاف.. إن الدول تنهض بشعوبها وليس بالحكومات. لكن حكوماتنا تفترض الغباء فى شعبها.. تفترضه وتظنه وتراه وتصدقه. بألف مثال وألف قصة. وآخرها حكاية خروج وزير الرى من الوزارة، وهذا الإسراع فى تفسير السبب بأنه طلب الإعفاء لأسباب صحية، ولم يكن ذلك صحيحا على الإطلاق. لكنه كان تفسيرا أضاف حجرا جديدا فى سد الثقة بين الحكومة وبين الشعب.. وهو سد كبير وعميق جعل الناس كلها تشك فى كل قرار أو تصريح حكومى. وحتى حين لعبت الحكومة الرياضة كان الانطباع الأكيد عند كل الناس أن هدف الفوز بمباراة كان مشكوكا فى صحته، لأن الحكومة لابد أن تفوز على الشعب، أو لأنها لا تخسر من الشعب. كأنهما خصمان فى مباراة وليس شريكين فى وطن! يا دكتور نظيف أنا لست معارضا ولا حزبيا ولا أعمل بالسياسة، وأرى أحيانا نصف الكوب الممتلئ بالإنجازات، وأرى فى أحيان أخرى النصف الآخر من الكوب.. أنا مجرد مواطن يا دكتور نظيف، برجاء لابد أن تغير من الخطاب الحكومى، ولابد أن تسرع فى هذا التغيير. والمبادرة منكم وليست من الشعب ولا من الإعلام، لأن أنتم، وأعنى بها الحكومات المصرية المتعاقبة على الأقل بدءا من مرحلة ما بعد ثورة يوليو سلبت إرادة المواطن، وسحبت منه حق المشاركة فى إدارة الوطن والدولة، فذهب المواطن ولم يعد وذهب الشعب ولم يعد. وأرجو معاليك أن تلحق الشعب قبل أن يرحل تماما بعيدا عن الوطن والدولة!