هل المصريون حزانى؟ وهل ما يشاع عن احتفاء المصريين القدامى التاريخي بالموت والحياة الأخرى حقيقي؟، وهل تسللت تلك الجينات إلى المصريين لتجعلهم يفقدون الإحساس بمتعة الحياة ويفقدون الثقة فيها؟، هذه الأطروحات جاء كتاب " روح مصر القديمة " الصادر عن مكتبة الشروق الدولية والمجلس الاعلى للثقافة لمؤلفته "آنا رويز" ليتجادل معها وليؤكد مدى محبة المصريين القدامى للحياة الانسانية بأدق تفاصيلها، ومحبتهم للطبيعة التي لم تبخل عليهم بشيىء، "لأنها لا تبخل ولا تقنط على من عرفها وتعامل معها فأحبها، والذي قامت بترجمته الكاتبة الصحفية إكرام يوسف. منذ ما يزيد عن 25 عاماً، وقعت المؤلفة "آنا رويز" وهى عضوة في كل من جمعيتي "ستافورد شاير للمصريات" ومقرها بريطانيا، و "دراسة الآثار المصرية" بكندا فى حب مصر القديمة، وألفت "رويز" كتابها الذي بالفعل أدت به جميلاً لكل من يهتم بقراءة هذه الفترة المليئة بعبق الحضارة والرقي. فكتاب " روح مصر القديمة بما يحويه من معلومات هي نتاج غوصٍ في بحار الماضي السحيق ليطفو بأبرز و أثمن مكنوناته، هو في وجهه الآخر يعد أداة أو محاولة لتذكير المصريين بت(من هم؟، وأين هم من العالم؟، وكيف وصلت حضارة أجدادهم الذين لم يتوانوا أبدا عن اختراع أو اكتشاف كل ما يجعل الحياة أجمل وأمتع. وعن ذلك تتساءل مترجمة الكتاب "إكرام يوسف" مستنكرةً : "فأين من علموا الدنيا الفلسفة والعلوم، من أحفاد كادت عوامل كثيرة أن تنجح في إبعادهم عن التفكير الجاد والبحث العلمي، ودفعهم إلى الانشغال بالتوافه من الأمور وصرف طاقاتهم العصبية والبدنية فيها؟.. وأين من اخترعوا التقويم السنوي وحسبوا مواقيت السنين والمواسم والشهور بدقة فائقة؛ من أحفاد باتت سمعتهم في الاستهانة بالوقت وتضييعه تسبقهم أينما يذهبون؟.. وأين "الفلاح الفصيح" والعمال الذين نظموا أول إضراب حضاري عن العمل مسجل في التاريخ عام 1170 قبل الميلاد استطاعوا بفضله الحصول على حقوقهم قبل أن يتشدق البعض من المحدثين بحقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي؛ بأكثر من ثلاثة آلاف عام.. أين هؤلاء من أحفاد بات يقال عنهم إنهم غير ناضجين سياسيا لممارسة حريات من هذا النوع؟.. وأين "بيشيشيت" المصرية؛ أول طبيبة عرفت في التاريخ المدون (في عصر الأسرة الخامسة 2498- ق.م2345". يروى الكتاب قصة نشأة مصر القديمة وارتقائها، متتبعاً أزهى عصور الازدهار أو أحلك فترات الضعف التخبط، فيتطرق إلى قوانين "ماعت " ربة الحقيقة والنظام والعدالة والتى عاش على قوانينها المصريين من جميع الطبقات الاجتماعية التي كانت تنقسم في ذلك الوقت إلى خمسٍ طبقاتٍ وفقا لمهنة أصحابها، مشيراً إلى أن إلى تميز حضارة مصر القديمة عن غيرها من الحضارات، لأنها حققت للمرأة مساواة مع الرجل في الحقوق والامتيازات ك حق امتلاك الأراضي والعقارات وادارتها وبيعها وإابرام التعاقدات وتمثيل نفسها في المنازعات القانونية، كما أتيح للمرأة العمل مستشارة للفرعون وكاتبة وطبيبة، فقد عثر ضمن سجلات الدولة القديمة على ما يثبت أن "بيشيشت" التي عاشت في عهد الاسرة الخامسة (نحو 2494 - 2345 قبل الميلاد) حملت لقب رئيسة الاطباء وفقا للنقش الموجود على شاهد قبرها. كما أن قوانين الميراث عند المصريين القدامى لم تبخس المرأة حقها، ففي حالة وفاة الأبوين كان يخصص للمرأة كل ما يتعلق بالذهب والحلى وما يخص المنزل، أما الابن فتذهب إليه الأراضي، وإذا كانت الابنة وحيدة فمن حقها ان تؤل إليها التركة كاملةً، و في حالة وفاة الزوج كانت أرملته تستحق ثلثي أملاكهما المشتركة ويقسم الثلث الباقي بين الابناء ويليهم اخوة الزوج. من ناحية أخرى ترصد المؤلفة في كتابها ظاهرة معروفة في وقتنا هذا ب"الزواج السياسي" الذي كان موجوداً أيضا في مصر القديمة، حيث أرسل حكام بناتهم لممالك مجاورة ليصبحن زوجات سياسيات لبعض الفراعنة، وبالفعل حدث أن تزوج كل من أمنحتب الأول (نحو 1546 - 1526 قبل الميلاد) وتحتمس الرابع (نحو 1425 - 1417 قبل الميلاد) أميرتين من سوريا، كما تزوج الأول شقيقة أحد ملوك بابل. أما رمسيس الثاني فتزوج الاميرة هيتيتي من طرطوس بهدف تسوية خلافات قديمة بين البلدين. هذا وقد كانت للكتابة في مصر القديمة أهمية بالغة، حيث وصلت نسبة المتعلمين منذ الأسرة السادسة والعشرين (نحو 664 - 525 قبل الميلاد) إلى أقصى معدلاتها فكان يتعين على الطلاب أن يتقنوا نحو 700 حرف هيروغليفي وبنهاية الحقبة الفرعونية بلغ عدد الرموز المستخدمة في الكتابة نحو خمسة الاف رمز. وتوفر للعارفين بالكتابة امتيازات جمة كالإعفاء من الضرائب ومن أداء الأعمال اليدوية مدى الحياة وكانت رواتبهم أكبر من النحاتين والرسامين. كما استطاعت الكتابة أن ترفع من شأن بعض الذين احترفوها إلى مرتبة الفرعون أو الحاكم، ونستشهد على ذلك بأن حور محب الكاتب البارز ارتقى من قائد للجيش في عهد توت عنخ آمون إلى حاكم للبلاد، قبل أن يعين هو قائداً عسكرياً آخر هو "رمسيس الأول" ليخلفه لأنه بلا وريث، وبعدها أسس الأخير الأسرة التاسعة عشرة (نحو 1320 - 1200 قبل الميلاد). وقد نفت المؤلفة انتشار الزواج بين الاخ وأخته في مصر القديمة، مشددة على أن هذا فهم خاطئ حيث كان كلمة "أختي" التي يشير بها الزوج الى زوجته في حب مرادفة لكلمة "عزيزتي" أو "زوجتي". ومع ذلك فإن زواج الأخت من أخيها كان متاحا في الأسر الحاكمة فحسب ولم يكن موجوداً بين عامة الشعب. وتزيل المؤلفة فصول كتابها بقصة شعبية من مصر القديمة تجذب القارىء غير المتخصص لمواصلة القراءة، وتدفعه دون قصد إلى المقارنة بين ما عليه أجداده ، وما آل إليه الحال. وفي نهاية الكتاب تسوق المترجمة وقائع زيارة قصيرة قامت بها إلى بريطانيا، وأصرت خلالها ألا يفوتها أن تزور المتحف البريطاني الشهير وهو المليء بكنوز حضارات العالم التي نهبها الاستعماريون، وعندما وصلت إلى القسم المصري وجدت " عددا كبيرا من الأطفال الانجليز والتي تتراوح أعمارهم ما بين الثامنة والثامنة عشر، يطالع كل منهم باهتمام فائق آثارنا، وبعضهم قد اتخذ الوضع المناسب لما يريد رؤيته ثم رسمه، وعندما سألت أحداهم أخبرها أن المدرسة كلفته بعمل بحث عن الحضارة المصرية التي هي أول ما يدرسه أطفال المدارس البريطانية فى مادة تاريخ العالم"!.