تقول لنا مشاهد الجزائر والسودان، ومن قبلها ميادين الربيع العربي «المجهضة» إن دولنا العربية للأسف لا تعرف «التداول السلمي» للسلطة. وأن الطغاة للأسف لا يذهبون عبر صناديق الاقتراع، بل بالموت.. أو الثورة. لو كانت هناك صناديق اقتراع «حقيقية» ما نزل الناس إلى الشارع. لو كانت هناك صناديق اقتراع «حقيقية»، وعرفت دولنا العربية «التداول السلمي» للسلطة ما نزل الناس إلى الشارع لأن الأسباب واحدة، فالنتائج واحدة في هذه العبارة البسيطة جدا، يمكن قراءة ما جرى في الجزائر والسودان، بالنظر إلى تلك الصورة «الباسمة» للزعماء والقادة في قمة «سرت» العربية قبل أسابيع فقط من أولى نسائم الربيع التي أطاحت برموز (صور) الصف الأول واحدا تلو الآخر. لا مفاجأة هناك، فما نشاهده على الأرض، وشاشات التلفاز ليس أكثر من فصول جديدة في «رواية الربيع العربي»، التي لم يسدل ستارها بعد، رغم كل الذين راهنوا على أن ما جرى في 2011 لم يكن محض «زوبعة في فنجان». لأسابيع طالت، ثار (أو بالأحرى ثابر) الشعب المطحون في الجزائر والسودان وعض على مطالبه بالنواجز، رافضا صفقات المساومين على «جوهرية» مطالبه مقابل ما هو «شكلي» من قرارات وإجراءات. ثابر المتظاهرون والمعتصمون في الساحات والشوارع، رغم مناخ إقليمي ودولي مزدحم الأولويات، لا تكاد هموم أولئك المحتشدون في العاصمتين العربيتين تمثل أي رقم فيها. أوروبا مشغولة بالبريكست المتعثر، وبالاستغلال «الشوفيني» لقضية اللاجئين. وأمريكا منشغلة بترامب وتغريداته الليلية، وصداماته (كما فضائحه) التي لا تنتهي. أما ترامب؛ الجالس على مكتبه البيضاوي (على قمة النظام العالمي) يوقع القرارات المثيرة للجدل، فقضيته الأولى (بعد إشباع نرجسيته) هي تحقيق «الحلم الصهيوني» القديم. أما العرب، فمنكفئون على ذواتهم أو همومهم؛ حكاما تتأرجح كراسيهم، وتداعب خيالاتهم حماقات طموحاتهم الرعناء، وشعوبا منهكة تلعق جراح الهزائم، والإحباطات. وتتعثر في مشوارها اليومي الشاق للبحث عن ما تبقى من فتات خبز، أتى عليه فساد النخب الحاكمة، أو على الأقل «سياساتها». *** دون الانزلاق إلى فخ «شخصنة» المشهد، والذي هو في جوهره مطالبة بإسقاط نظامٍ (لا أشخاص) مستبدٍ فاسدٍ، تبقى في تفاصيل المشهد الذي هو باتساع جغرافي من المحيط إلى الخليج، وتاريخي من التحرر إلى الديكتاتورية صورة مناضل قديم، كان أحد أركان «حركة التحرير»؛ مليونية الشهداء، والجديرة بكل تقدير واحترام. إلى أن كان أن مكث في الحكم فترة أطول من أي رئيس جزائري آخر. وكما أن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة» فلطول فترة الحكم (أيًا من كان شخص الحاكم) آثارها المُفسدة المدمرة. فما بالك حين يصبح «مقعد الحكم» مقعدا طبيا متحركا مخصصا للمرضى. فحول «الحاكم الفرد» تنمو أوليجاركيا المصالح، تتعايش وتتعيش على الفساد والقمع واللا شفافية. قصة قديمة مكررة «للدولة الشمولية» قرأناها مائة مرة بداية من عراق صدام، وليبيا القذافي، وليس نهاية بتشاوشيسكو Nicolae Ceaușescu رومانيا، ورفاقه في دول حلف وارسو القديم. كان مشهد عبدالعزيز بوتفليقة (عشرون عاما في السلطة)، وهو يدلي بصوته في الانتخابات الرئاسية الماضية قبل أربع سنوات (على مقعده المتحرك) مشهدا دالا، تقرأ في تفاصيله: 1 أن هذا نظام (كأشباهه الذين نعرف) لا يؤمن «بالتداول السلمي» للسلطة. 2 أن هذا نظام (كأشباهه الذين نعرف) تشابكت مصالحه، بحيث لم يعد يطيق أصلا أن يذهب. 3 أن هذا نظام (كأشباهه الذين نعرف) إن طال به الزمن لن يدعه المتعيشين عليه يذهب، حتى وإن صار مقعدا، كما كان الحال في الصورة الشهيرة. أو «تيبس على مقاعده»، كما هو التعبير الأثير للأستاذ هيكل في محاضرته الشهيرة في معرض الكتاب (1995). 4 أن للجزائريين كل الحق (كما للسودانيين كل الحق) أن لا يقنعوا بالإطاحة بالرئيس. فلا أحد بوسعه أن يزعم أن الرئيس «المقعد» الذي ظهر في الصورة ينتخب نفسه قبل سنوات خمسة، كان هو الذى يحكم طوال تلك السنوات الخمس بل «النظام». *** لا يرحل الطغاة للأسف عبر صناديق الاقتراع، بل بالموت .. أو الثورة على الناحية الأخرى، كان عمر حسن أحمد البشير (ثلاثون عاما في السلطة)، والذي كثيرا ما رأيناه يرقص بالعصا، يجيد اللعب، ليس بعصاه فقط بل على كل ما عرفنا من حبال. أقام دولة «إسلامية»، أو بالأحرى أسماها كذلك. ثم فعل كل ما هو عكس ذلك، حتى في تحالفاته (بوتين نموذجا). حُسبت حركته على الإخوان المسلمين، لكنه لم يفوت فرصة واحدة للتودد للنظام المصري الحالي الذي أطاح بالإخوان المسلمين. رفع، كغيره لافتة «الحرب على الإرهاب»، مشيدا في كل مناسبة بما اعتبره «الخبرة المصرية» في هذا المجال، في الوقت الذي لم يتردد فيه في تعيين المسؤول الأول عن خطة محاولة الجماعة الإسلامية اغتيال الرئيس المصري في أديس أبابا (1995) مديرا لمخابراته(!) ثم كان، مع مهارة أقل، أن لعب البشير (الذي وصل إلى السلطة، كأشباهه عبر انقلاب عسكري) لعبة صدام العراقية، وعلي عبدالله صالح اليمنية. في استثمار التناقضات والتوازنات الإثنية والطائفية. مثلهما (وكأقرانهما) أهدر البشير قيم المواطنة؛ التي يفترض ألا تعرف دينا أو طائفة أو إثنية، فأضاع نصف أرض بلاده، بعد أن اختار 99٪ من سكانها (في استفتاء حر) الانفصال، واستمرأ حربا أهلية في دارفور لم يكن لها من وقود غير تناقضات التنوع، وغياب المواطنة. *** رغم رمزية الأسماء والأشخاص، فقد بدا واضحا أن القصة أكبر من كل الأسماء والأشخاص. كان «فقدان الثقة» عنوانا لكل التفاصيل. في الجزائر، كما في السودان (مع اختلاف طفيف في التفاصيل) وعد بوتفليقة مبكرا بانتخابات مبكرة، «وبتغيير النظام»، لم يصدقه الجزائريون. فقال الرجل إنه لن يترشح (أو بالأحرى سحب ترشيحه)، معلنا عن حوار وطني يتولى تحديد موعد جديد لانتخابات الرئاسة ودستور جديد يستفتى الجزائريون عليه.. فلم يصدقه الجزائريون. لماذا؟ ببساطة لأن «النظام»، كان قد فقد مصداقيته. ولأن «لا_للعهدة_الخامسة» كانت تعني ما هو أكثر بكثير من العبارة ذاتها. ولأن مشكلة الجزائريين لم تكن مع بوتفليقة (المناضل القديم) بل مع «النظام»؛ الذي ككل الأنظمة الشبيهة، سمحت طبيعته السلطوية بتحكم «الأوليجاركيا»؛ فسادا، وقمعًا، ومصادرة للحريات… والمستقبل. في السودان لم تختلف سوى الأسماء والتفاصيل. «لسنا انقلابا»، يقول المسئول الرفيع في المجلس العسكري الانتقالي في السودان. بعيدا عن نقاشات الأكاديميين حول اشكاليات المصطلح، فالمشكلة الحقيقية قد لا تكمن في التنظير، مع ضرورته للفهم بل قد تكون في خبرات وتجارب سابقة ومجاورة.. وصادمة. والأهم في «ثقة تآكلت» عبر عقود، وخبرات عايشها الناس. «لسنا منحازين للرئيس.. نحن منحازون للسودان»، يقول المسئول الرفيع أيضا في تقرير ما كان ينبغي أن يكون بحاجة إلى تقرير. أو بالأحرى فيما كان ينبغي أن يكون «من نافلة القول» كما يقول العرب. ولكن هل هو من «نافلة القول» فعلا، كما خبر العرب وعرفوا عبر مئات سنين الخلافة، والبيعة، والمتصرف، والمندوب السامي، والزعيم الملهم، والقائد المفدي؟ في قصص التاريخ إجابة واحدة. ………….. يخشى السودانيون، كما الجزائريون أن يكون (كل) ما جرى في النهاية هو «انقلاب داخل القصر» يخشى السودانيون، كما الجزائريون أن يكون (كل) ما جرى في النهاية هو «انقلاب داخل القصر»، فتاريخ قصور العرب وخلفائهم حافل بمثل تلك الانقلابات؛ سلمية كانت أو دموية.. أو حتى نسائية. يعرف تاريخنا البعيد والقريب من «انقلابات القصر» ومكائده، ما كان طمعا في سلطة، أو ضمانا لتوريثها. كما يعرف أيضا ما كان للحفاظ على «النظام»، سواء كان بحسن نية من تربوا على أن «النظام هو الوطن»، أو بحرص أولئك الذين تشابكت مصالحهم فتضافرت مع النظام القائم؛ مؤسسات وأفراد، وربما حتى هويات وثقافة. يعرف التاريخ كل هذه القصص، كما تعرف قوانين الفيزياء «النقطة الحرجة» التي عندما يصلها «الضغط» على نظام ما، أيا كان هذا النظام، فإنها تؤدي إلى شرخ في مكوناته، ولكنها لا تعني بالضرورة الانهيار الكامل للنظام (مهما كان سيئا)، بل قد تكون النتيجة إعادة تشكيله (من المكونات ذاتها) بما يجعله أكثر صلابة وجمودا. كما يحدث هذا في المعمل، يحدث أيضا في حياتنا كل يوم. ولهذا يحق للجزائريين، كما السودانيين في شوارع الخرطوم أو الجزائر (العاصمة) أن يقلقوا. هي ليست قصة الجزائر أو السودان، بل هي قصة كل هذه الأنظمة التي لم تنجح في الانتقال من «شرعية ثورية»، استوجبتها حركات التحرر الوطني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مقاومة للاحتلال والاستعمار إلى «شرعية دستورية» تستوجبها متطلبات بناء دولة معاصرة حديثة، يتمتع مواطنوها، ليست فقط بالتخلص من الاستعمار، بل بالحرية، والمساواة، والكرامة الإنسانية. شرعية تستلزم تعريفا تحرير المواطن من ربقة أنظمة أمنية قمعية تتعايش عليها «أوليجاركيا» الفساد والاستبداد من جماعات المصالح ونخبها. ربما لم يكن الجزائريون، كما السودانيون المتدافعون إلى الشوارع، يعرفون ماذا يريدون له بالضبط أن يحدث في اليوم التالي (لضمان تحقيق أهداف حراكهم) ولكنهم يعرفون تماما ماذا لا يريدون. هم ببساطة لا يريدون دولة الرجل الواحد. لا يريدون هذا النظام السلطوي القمعي الذي تمكنت أوليجاركيا الفساد والقمع من مفاصله. حكى لنا رجل أعمال مصري شهير عن كيف انهارت استثماراته هناك بسبب الفساد، الذي هو صنو الاستبداد. يريد الجزائريون والسودانيون كما كان المصريون والسوريون والتونسيون والليبيون واليمينيون كما غيرهم من شعوب منطقتنا المبتلية بمستبديها (الذين ثاروا، أو الذين يتحينون الفرصة)، أن يكون لديهم مثل شعوب العالم المتقدم «دولة مدنية معاصرة، قوامها الديمقراطية، والحريات، والتداول السلمى للسلطة، واحترام حقوق الإنسان» (النص بالمناسبة كان موجودا في مسودة رؤية مصر 2030 قبل أن يتم حذفه). ربما لا يعرف الجزائريون والسودانيون ملامح واضحة «لخارطة طريق»، ولكنهم بالحس الشعبي يدركون أن «الشيطان قد يكمن في التفاصيل»، كما يعرفون أن «في تجارب التاريخ القريب ما يدفعهم للقلق». *** ما نشاهده الآن ليس أكثر من فصول جديدة في «رواية الربيع العربي»، التي لم يسدل ستارها بعد يقول لنا ما جرى في الجزائر ثم في السودان: إن «الربيع العربي لم يكن مصادفة، أو مؤامرة، أو محاولة الاستيلاء على الحكم، وأن الاطمئنان لنجاح «الثورة المضادة» أو إعلامها، في إحباط التغيير، أو تشويه حركة الجماهير، ليس أكثر من اطمئنان خادع يحكمه «التفكير بالتمني» وثقافة «تمام يا فندم». الدرس الذي نتعلمه من شوارع الجزائر والسودان: أن لتحرك الجماهير أسبابها.. «وإذا حضرت الأسباب، حضرت النتائج». أن ما يبدو انتكاسة، أو انتصارا «للثورة المضادة»، أو إذابة لأحلام الجماهير في أنهار من دماء الاضطرابات، والصراعات الطائفية، أو الإثنية، أو الجهوية المفتعلة، لا يعدو أن يكون محاولة لدفن «الجمر تحت الرماد». فالثابت من قراءة التاريخ أن الشعوب لن تتوقف، وإن بدا غير ذلك إلى حين عن عن حقها في المطالبة «بالعيش والحرية، والكرامة الإنسانية». وأن هذا درس التاريخ الأول الذي علينا أن نعيه ونتدبره. عندما تشاهد على التلفاز بعد ما يقرب من شهرين من التظاهرات والحراك السياسي، من يقول لك في الشارع الجزائري أو السوداني: أننا لم نشعر بالأمان إلا اليوم فقط، فهذا يعني بوضوح أن الإحساس بالعدالة (لا بصرامة القبضة الأمنية القمعية) هو الذي يمنح الإحساس بالأمان. *** وبعد.. فربما تبقى من أن أسوأ جرائم أنظمة قمع ما بعد حركات التحرر الوطني، فضلا في «اختصار الوطن في النظام، واختصار النظام في شخص الرئيس» هو ما جرى على الأرض من «تجريف متعمد للحياة السياسية». بحيث تصبح معه مقولة مبارك الشهيرة «أنا أو الفوضى»، وإرباكات «الأسئلة الكبرى» لما بعد التخلص من ربقة استبداد النظام القديم، بما فيها سؤال عمر سليمان الشهيرعن الديموقراطية (وتوقيتها) تجسيدا حقيقيا للثمن الباهظ الذي على الشعوب أن تدفعه ثمنا للمستقبل. حين تعز الولادة الطبيعية، فتصبح الولادة القيصرية قدرا محتوما. لمتابعة الكاتب: twitter: @a_sayyad Facebook: AymanAlSayyad.Page روابط ذات صلة: – سقط مبارك.. فهل حقا سقط النظام؟ – علي عبد الله صالح .. وأقرانه – حتى لا نكون «مثل سوريا والعراق»