عفيفى يستدعى نفيسة قنديل من العالم الآخر: أصرخ كثيرا بصوت مرتفع.. ألا يمكن أن يضمَّنا مكان واحد حتى أستريح من هذا الانقسام والخوف والظمأ وكأنها بلقيس ولكن رحيلها جاء بعد رحيل نزار.. النهاية المأساوية ذاتها.. والصدمة عينها، ففى 15 ديسمبر 1981، رحلت بلقيس معشوقة وملهمة الشاعر نزار قبانى فى تفجير السفارة العراقية.. وفى 19 مارس 2019، حلت ملهمة أخرى لشاعر آخر.. رحلت الكاتبة والناقدة نفيسة قنديل، زوجة ومعشوقة وملهمة الشاعر الراحل عفيفى مطر، والتى عثر على جثمانها، مقتولة بين جدران المنزل، الذى كان شاهدا على مشوارهما الطويل. وكأن عفيفى مطر كان يقرأ الغيب فى «جوابات فترة الخطوبة».. تلك التى كانت نفيسة تحرص على مراجعتها يوما بعد يوم، منذ قرر شريكها الرحيل قبل 9 سنوات.. و«جوابات عفيفى» كانت مشروعا أدبيا تستعد حبيبته أن تعمل على خروجه للنور فى كتاب يؤرخ لقصة حبهما وكفاحهما معا فى بغداد، وقرية رملة الأنجب فى مركز أشمون بالمنوفية، حيث لقت حتفها «قتيلة بدافع السرقة». ونعود إلى الغيب الذى بما استشفه عفيفى مطر فى رسائله، حين كان يصف لحبيبته مرارة انتظارها – وكأنه يناجيها من العالم الآخر حين كتب فى إحدى رسائله: «أنت لا تعرفين ما سوف أكابده من عذاب حينما تفرض الظروف علينا انقطاعا وغيابا لسنتين كاملتين تكونين فيهما فى مكان بعيد، فأحرم حتى من لقائك (..) ولكنى سأنتظر بغبطتى المعذبة مهما طال الوقت وابتعدت المسافة». ولا يقتصر التنبؤ على رحيله قبلها، ولكن ينصرف إلى رحيلها هى بهذه الطريقة المؤلمة، لينطبق عليه وصفها له بأنه «شيخ مستتر»، استطاع أن يتنبأ بكثير من الأحداث الحياتية فى شعره وأقواله، فقد كان دائما ما يردد على مسامع زوجته: «أشفق عليك من المصير الأليم»، ليتم اعتقاله بعدها ويقاسى وتقاسى هى معه ويلات تلك التجربة.. ويناجيها فى فى إحدى قصائده: «يا امرأة أموت على محفتها الفقيرة»، وهو نفسه ما تحقق، فبعد مرضه أصر على أن يغادر المستشفى ليلقى ربه فى بيته.. لتتحقق نبوءة أخرى، صاغها بخط يده فى رسالة تعود لأكثر من نصف قرن: «من بين جميع البشر أظمأ إليك ظمأ ملتهبا قاسيا.. وأرجو بين يديك الحياة والتفتح.. وأرجو أن أستقبل الموت ورأسى على ركبتيك، وصوتك آخر ما أحمله معى من زاد الأبدية»، لتكون النهاية كما أراد، على ركبتيها». وفى نعى نفيسة قنديل، يقول أحد أشقائها: «كل ما أعرفه أن بيتك لم يُغلق بابه فى وجه سائل أو محتاج قط، كان بيتك خيمة للفقراء، ومائدة للجائعين، وكنتِ أنت تلك السحابة التى لم تبخل بغيثها على أحد يطلب المساعدة، خبزا كانت أم كتابا، أم جهاز عروس، أم وصفة علاج». ولعل نفيسة كانت تعمل بوصية مبكرة لزوجها الشاعر الكبير الراحل، حين كتب فى إحدى رسائله: «كل إحساس طيب تشعرين به حيال أى إنسان.. هو فى نفس الوقت إحساس يضاف إلى رصيدى من السعادة، وكل موقف مشرِّف تتخذينه بأمانة ومسئولية، هو فى نفس الوقت موقف منى شخصيا». لتظل نفيسة مشرعة باب منزلهما فى رملة الأنجب على مصرعيه أمام القاصى والدانى، لتكون نهايتها – ربما – على يد سائل فتح الباب وقرر أن يكتب نهاية قصة حب طرحت شعرا ونثرا. ويروى عفيفى مطر فى كتابه «أوائل زيارات الدهشة.. هوامش التكوين»، الذى يحوى سيرته الذاتية، قصة تقدمه لخطبة نفيسة وطلب يدها من والدها «محمد أفندى قنديل»: «حين ذهبت إليه أخطب ابنته، هرب الدم من وجهه، وارتبكت حركته وهو يبحث عن علبة سجائره، بينما السيجارة مشتعلة بين أصابعه، فهو فى حيرة عاصفة ما بين صداقة ممتدة يحرص عليها وبين خوف شديد على ابنته من مستقبل غامض.. تخيم عليه من التمرد والفقر وصلابة الإرادة، ظلال مصير مجهول، قال: إنْ رضيت فبها.. وإلا فأنت ابنى وهى ابنتى، قال لها وألحَّ فى نصحها: هذا شاعر منشغل لا يمتلكه شىء سوى الشعر، عيناه نهمتان وروحه متقدة وحواسه لا تشبع، ولا أمان معه، قالت: وأعرف أنه فقير متمرد قد خرج من سجن إلى سجن، وأنه نذر حياته لما يؤمن به، وكنت أتمنى أن يختارنى، وأظنها ندمت ندما شديدا وهى ترى نبوءاته تتحقق، فقد وصفتنى مرارا بأنى بومة فى خراب الهزائم، وحصان الحرية الجموح فى برارى القهر والأهواء وصراحة الغضب واتقاد الحواس، وأن الدنيا أضيق من خطاى». ولم تكن نفيسة مجرد زوجة وملهمة لعفيفى، بل كانت ذاتها، فنفيسة التى ولدت فى رملة الأنجب بمركز أشمون 10 فبراير 1946، تخرجت فى كلية التجارة وحصلت على الدبلوم العالى فى الشريعة الإسلامية، وسافرت مع مطر إلى العراق، وعملت كاتبة وصحفية وناقدة فى مجلة الأقلام العراقية فى الفترة من 1978 إلى 1982، ولها عدد من الدراسات النقدية لشعر عفيفى مطر وأمل دنقل وأحمد عبدالمعطى حجازى. وتمضى الأيام بنفيسة قنديل بعد عفيفى، لتنضم له فى النهاية، وكأنها كانت تقرأ تلك السطور التى خطها فى إحدى رسائله، مترجيا أن تنضم إليه فى عالمه: «لقد أصبحت حاضرة معى، تعطينى ثراء وجودين كاملين فى حياتى، تقفين بينى وبين كل شىء، وكل شىء ينفذ إلىَّ ملونا بك، ومضافا إليه طعمك وعبيرك، أصرخ كثيرا بصوت مرتفع: أنتِ هنا وهناك.. ألا يمكن أن يضمنا مكان واحد حتى أستريح من هذا الانقسام والخوف والظمأ».